الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/07/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الصلح العالمي (2) /كتاب نزاعات الملك

 

الصلح العالمي أو السلم العالمي هدفٌ من الأهداف المقدسة للإسلام وقد قام المسلمون بتحقيقه ولو بصورة جزئية إنطلاقاً من الرؤية الشمولية للبشرية دونما تمييز عنصري أو ديني، فقد قال ربنا سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‌ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبير[1] ، فأصل كل إنسانٍ ذكرٌ وأنثى دون إلتفاتٍ إلى عنصرٍ أو لون.

ومنطق الإسلام بقي ولا يزال هو المنطق الأقرب إلى الفطرة البشرية، وكلما تقدم البشر في الخلق الرفيع وفي معرفة الحقائق كلما اقتربوا من روح الإسلام رغم الصورة المشوهة للدين الإسلامي عند الكثيرين بسببٍ أو بآخر.

وقد ذكرنا أن للسلم العالمي ركائز أولها الدفاع الشرعي، الذي يعني حاجة المجتمعات والأمم إلى قوى تردع المعتدي من الإعتداء وتمنعه من التفكير في الإعتداء، ولعل القوة تتمثل في السلاح المتقدم أو قوة الدبلوماسية وتداخل المصالح، أو حتى يمكن أن تكون قوة المقاومة الشعبية، أي وجود شعبٍ صعب المراس، لا يترك المحتل يدخل بلده بسهولة، كما في الشعب الفيتنامي واللبناني وكما في الشعب العراقي الذي قاوم الإحتلال البريطاني وعكّر على كل محتلٍ صفو الإحتلال.

الركيزة الثانية: الميثاق

وللحديث عن المواثيق لابد من التمهيد بالقول بأن الله سبحانه خلق الإنسان في أحسن تقويم وجعل فطرته فطرة سليمه، وهذه الفطرة الموجودة لدى كل إنسان أساس العلم والمعرفة وأساس كل إيمان صحيح، ويعني ذلك أن الإنسان – كإنسان – خلقه الله سبحانه على أساس حق العدل والمحبة تجاه الآخرين واستقباح الظلم والأخلاقيات الذميمة.

وما بعثة الأنبياء والرسل إلا كانت في سبيل إستئداء ميثاق تلك الفطرة والمطالبة بالعمل بها، ولذلك لم يكن الأنبياء في مقام الحجة بحاجة إلى المعاجز كثيراً لدلالة كلماتهم ودعوتهم على صدقهم ورسالتهم، وكما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اعْرِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ"[2] ، نعم؛ كان للأدلة الأخرى أهميتها ولكن الأساس هي الرسالة المتوافقة مع الفطرة.

ومن أبعاد فطرة الإنسان إحترام الميثاق المرتبط بالذمة والتي تعكس إحترام الإنسان لشخصيته وقسمه، الذي يعبّر عنه في القرآن بـ(إلّ)، ويبدو أن الله سبحانه لم يأخذ من البشر الميثاق بالوحدانية في عالم الذر فحسب، بل كما يفهم من بعض النصوص أن الميثاق مع الله شمل كثيراً من الحقائق، وطالب الأنبياء من البشر الإلتزام به.

وهو – أي الميثاق- أساس الأمم والأصل في التعامل بينها، لأن الأمم – كأمم- تختلف دياناتهم وشرائعهم فلا يمكن التعامل مع الأمة الأخرى وفقاً لشريعتها أو شريعة أمتنا، ولذا كان المنطلق هو التعامل وفقاً للميثاق، ويحدثنا القرآن الكريم عن هذه الركيزة في أكثر من آية منها قوله سبحانه: ﴿وَ إِذْ أَخَذْنا ميثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُون[3] ، وذم ربنا المشركين بآنهم لا عهد لهم عند الله وعند رسوله ولكن يأمر بالإلتزام بالعهد معهم إذ كان هناك ميثاق وتعاهد بينهم وبين المسلمين، فقال: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقين[4] .

القوانين والمواثيق الدولية

وإن كان الإلتزام بالعهد واجباً حتى مع المشركين وأهل الكتاب، فهل تلزم الشعوب الإسلامية أو الحكومات الإسلامية بالقوانين الدولية والمواثيق الأممية كقانون حقوق الإنسان أو قوانين المنظمات الدولية كاليونسيف و يونيسكو وغيرها من المنظمات المهتمة بعلاقة الشعوب ببعضها البعض، أم ليس هناك إلزامٌ على المسلمين؟

الجواب على ذلك: إن تعهدت الشعوب أو الحكومات الإسلامية بالإلتزام بها فهي ملزمة لهم من جهة الميثاق والإلتزام بالعهد، لا بإعتبار صحتها دائماً.

وهذا هو وجه النظام الإسلامي الناصع، لا ما عكسته الدول الأموية والعباسية التي لم تكن تحترم المواثيق والذمم، فالإسلام يلزم المسلمين بالإلتزام بميثاق مسلمٍ واحد وإن كان شخصاً عادياً، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ"[5] ، وروي أن علياً عليه السلام، أجاز أمان عبد مملوك لاهل حصن من الحصون، و قال هو من المؤمنين[6] .

 

الركيزة الثالثة: الدفاع عن المستضعفين

البشرية مطالَبون بالدفاع عن المظلوم، لأن ذلك مما تأمر به فطرة الإنسان، فالإنسان السوي يسعى للدفاع عن المظلوم، وقد ثبتّ القرآن الكريم هذه الفطرة بقوله سبحانه: ﴿وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ في‌ سَبيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصيرا[7] ، وليس المستضعف هنا هو المسلم، بل هو الإنسان بلحاظ الإستضعاف والمظلومية.

ولما كان هناك أمرٌ بالقتال فمن بابٍ أولى يجب القيام بما هو أقل من القتال للدفاع عن المستضعفين، كتفعيل المصالح المشتركة أو عبر المحاولات الدبلوماسية وغيرها.

 

الركيزة الرابعة: اقتلاع أسباب الحرب

من ركائز السلم العالمي هي السعي وراء تصفية أسباب الحرب ومنها الفقر والحرمان، واليوم حيث يعيش في العالم أكثر من عشرين مليون جائع وقرابة مليار فقير لا يمكن منع الحروب من الإندلاع إلا بمعالجة أوضاع هؤلاء.

وثلث ما ينتجه أهل الأرض من الطعام يذهب سدىً وسرَفاً، في حين بالإمكان أن يقضى به على المجاعة والحرمان.

وعلى المسلمين أن يحاربوا الفقر ليس في بلادهم فحسب، بل في كل العالم، والفقه الإسلامي يحكم بحمل الزكوات إلى البلدان الأخرى إن اكتفى المسلمون ولم يحتاجوا إلى الزكوات، وذلك لأن "لكل كبدٍ حرّى أجر"[8] – كما عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله -، فضلاً عن البشر الذين صنّفهم أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق‌"[9] .

ولم يثبت عندي وجوب إنقاذ كل نفسٍ في العالم مع القدرة على ذلك، كما في شخصٍ يموت جوعاً في أفريقيا وبإمكاني إنقاذه، أقول لم يثبت عندنا ذلك ولكن ذلك يتوافق مع مذاق الشرع، حتى ولو لم يكن المحتاج إلى الإنقاذ مسلماً.

 

كلمة أخيرة

وفي نهاية كتاب الصلح وبعد الحديث عن الصلح الفردي كعقد، وعن النزاعات حول مسائل الملك والعلاقات الإجتماعية، وفي نهاية الحديث عن الصلح العالمي نقول:

بإمكاننا كمسلمين حمل راية السلم العالمي إلى العالم أجمع، وإن لم تكن هناك دولٌ أو حكومات تحمل الراية، لأن الإسلام أعتمد الأمة في تعاملاته وأوامره ونواهيه لا الدولة، فقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون‌﴾[10] ، فإذا تحملنا مسؤولية الدفاع عن المظلوم واقتلاع اسباب الحروب لخطونا تجاه السلم والأمن العالمي.

ومن هنا لابد أن يتحمل علماء الدين مسؤوليتهم في إظهار سماحة الإسلام ونشرها لا أن يكونوا – كما البعض – دعاة فتنةٍ وتمزقٍ وشقاق، والله المستعان.


[1] الحجرات/السورة49، الآية13.
[2] الكافي-ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج1، ص85.
[3] البقرة/السورة2، الآية84.
[4] التوبة/السورة9، الآية7.
[5] الکافی ط-الاسلامية، الشيخ الكليني، ج1، ص403.
[6] شرح الكافي، الشيخ محمى صالح المازندراني، ج7، ص402.
[7] النساء/السورة4، الآية75.
[8] جامع الأخبار(للشعيري) محمد الشعيري، ج1، ص139.
[9] نهج البلاغة ط-دار الكتاب اللبناني، السيد الرضي، ج1، ص427. من عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر لما ولّاه مصرأً
[10] الأنبياء/السورة21، الآية92.