الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/07/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أحكام فتح الرواشن والأجنحة / كتاب النزاعات

 

هناك ثمة فروعٍ ترتبط بالطرق النافذة، بينّها المحقق الحلي قدس سره وشارحوا شرائعه وكذا بينها العلامة وبتبعه صاحب مفتاح الكرامة وغيرهم، ويبدو لنا أن الأفضل قبل بيانها تأسيس أصل لها جميعاً ومن ثم نتحدث عنها تفصيلاً بعد التأصيل.

 

بين الحق والملكية

وأول تلك التأصيلات هو الحديث عن الفرق بين الملكية والحق، فما هي الملكية وماهو الحق وما هو الفارق بينهما؟

يبدو أن الحق جزءٌ من الملك والملك مجموعة حقوق مجتمعة ومتراكمة، فمن ملك شيئاً ملك بيعه وإجارته وعتقه وملك ظله والإنتفاع به والطريق إليه وطائفة من الحقوق الأخرى، فالملك ليس علاقة بين الإنسان والشيء بصورة مطلقة بلا قيود في كل جوانبه ودائمة بلا حدود في زمانه - رغم محاولة الإنسان تصور ذلك- بل الملك هو تخويلٌ من قبل الله عزوجل – المالك الحقيقي للأشياء – للإنسان وفي حدودٍ معينة ولمدة معينة، فقد يملك الإنسان مالاً ولكنه لا يملك الإسراف فيه شرعاً.

وكما الملكية مسوّرة بسورٍ شرعية مؤطرةٌ كذلك بإطارٍ عرفي – أي تبعاً للحالة الإجتماعية – فربنا سبحانه يحدثنا عن السفيه ويقول: كما هو حال السفيه الممنوع من التصرف في أمواله: ﴿وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتي‌ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً[1] ، ويعني ذلك أن المال به يكون قوام الناس، فيجب أن يصرف فيما يصلح الناس لا أن يصرف في مصلحة الفرد بما يضر بالناس، وبهذا تكون لفظة (القيام) مقاربة مفهوماً لكلمة (النظام).

وبناءاً على ذلك يكون معرفة حدود الفهم العرفي من الأهمية بمكان، والذي يتحول أحياناً إلى قانونٍ ولائي متبع - لا قانونٍ شرعي ثابت- لطريقة التعامل مع الأشياء، ومن ذلك ما يرتبط بالطرق.

 

من أحكام الطرق لدى العرف

فالناس – مثلاً - يملكون حق الإستطراق في الطرق والنافذة منها خصوصاً ولكن لا يحق للمارّ فيها أن يخالف طريق السير أو أن يسرع فيه بسيارته بأكثر من الحد المسموح والمتعارف أو أن يحدث دكةً في وسطه أو يقوم بوضع حواجز فيه، وذلك لأن الشارع من حق الجميع وهناك حدود لحقه في الإستفادة منه وهي التي يبينها الشرع أولاً ومع سكوته عنها يحددها العرف بحسب الزمان والمكان وحاجاته.

 

الرواشن والأجنحة

ومن المسائل التي يذكرها المحقق الحلي قدس سره ونوقش فيها كثيراً هي مسألة فتح الرواشن والأجنحة في البيوت المشرفة على الطرق، ونحن نضيف إليها[2] الإمدادات التي تمر تحت الطريق (كإمداد الكهرباء و الماء والمجاري) وغيرها مما يرتبط بالإستفادة من الطريق النافذ حيث يملك المشرفون عليه الإستفادة منه بما لا يتعارض مع حق الآخرين، إذ لا يجوز إحداث تمديدات للكهرباء بما يضر الآخرين لأنها ليست سوى حقوق الإنتفاع من الطرق للمشرف عليها دون أن تكون ملكاً له.

أما بالنسبة إلى الرواشن والتي هي نوافذ خارجة عن الجدار بخلاف الكوّة، والأجنحة التي تعني تقدم البناء العلوي كله نحو الفضاء الخارجي سواء بأعمدة (وهو ما يسمى شناشن) أو بدونها، فهل فتح الروشنة يعد من الحقوق أو ملك؟ وإن كانت ملكاً فهل يملك فاتحها الهواء أم لا يملك؟ وبعبارة أخرى: هل أن إحداث الرواشن والأجنحة يحدث له ملكاً أم مجرد حق؟

إن قلنا أن الإمدادات حقٌ لأنه في خارج ملكه فالطوابق العلوية هي ملك لصاحب الدار بعد بناءه، فله حق البناء ولكن بالبناء يكون مالكا ًللطابق المبني، ولكن هل يشمل ذلك الجناح الخارج عن حدود أرضه، وبالتالي إن أراد بيع الدار أن يبيع الفضاء الخارجي أيضاً؟

الجواب على ذلك يكمن في تحديدنا لمفهوم الحيازة، وهل الحيازة – التي تعني سبق الإنسان إلى شيء مباح كالسبق إلى صيد السمك – تفيد الملك أم حق الأولوية؟ وهل يمكن أن يحوز الإنسان الفضاء أصلاً؟

نقول: ظاهر النبوي "من سبق إلى شيء فهو له" يدل على الملكية مضافاً إلى آية التسخير التي مرّ الحديث عنها، نعم الملكية في حدود عدم الإضرار بالآخرين أو تجاوز حقوقهم، وبعبارة أخرى الحيازة تفيد الملكية المحدودة بالحدود الشرعية والعرفية، وبناءاً على هذا لو بنى أحدٌ روشنةً أو جناحاً في داره على الطريق ثم هدمت هل لا يزال له الحق في البناء إستصحاباً للحق السابق أم يسقط حقه؟

إن قلنا أنه مجرد حقٍ فإنه يزول بزوال العين، أما إذا قلنا بأنه بالحيازة يملك الفضاء فيحق له أن يبني مجدداً.

وتظهر الثمرة إذا حصل تشاح بين صاحب الروشنة وجاره المقابل له، حيث لم يمكن بناء أكثر من جناح أو روشنة، فإن قلنا بزوال الحق قلنا بجواز بناء جاره بعد الإنهدام، بل وقيل وإن قام الجار بالهدم جاز له البناء مع إعطاءه الأرش، ولكن إن قلنا أنه يملك الفضاء بالحيازة فلا يحق لجاره البناء، إذ يعد ذلك حريماً له كما هو حال من حفر بئراً فلم يجز لغيره أن يحفر في حريمها أو حتى ما يعد اليوم حريماً للفضاء، كما لو قام امرءٌ ببناء منحلة في مكان مباح فلا يحق لغيره أن يبني مثلها بقربها لأنه حريمه، فهل السبق يشمل هذا الأمر أيضاً؟ أو هل يشمل السبق في البحر أيضا؟

نحن نقول: من سبق إلى شيء أو آية التسخير، لا فرق فيهما بين الأرض أو أو البحر أو تحت الأرض أو فوق السماء، فكل ما كان فيه إمكانية السبق فسبق إليه شخصٌ فهو أحق إليه، وبالتالي يكون ملكه، وفي صاحب المنحلة لو هدمت منحلته ملك الحق في إحداث أخرى، فهو مالكها ما دامه حائزاً لها ويمكن له أن يبيع حق التصرف والحيازة، نعم لو أعرض عنها عادت مباحة كما لا يخفى.

فلو أعتبر العرف للسماء حيازةً كما الأرض فيمكن أن نقول بملك صاحب الشرفة لفضاءها مادامه حائزا ًلها وإن هدمت، وبالتالي تكون حيازته بحسبه – كما ذكرنا أن حيازة كل شيء بحسبه- فقد يأتي يوم يقنن العرف قانوناً بإعتبار حريم للبنايات المرتفعة ومنع غير صاحبها من بناء بناية مرتفعة في حريمها، فيكون صاحب البناية حائزا لهذا الحريم ولابد لغيره أن يتبع هذا القانون.

قال المحقق الحلي قدس سره في هذه المسألة: "و لو أخرج بعض أهل الدرب النافذ روشنا لم يكن لمقابله معارضته [إن لم يكن مضراً به] و لو استوعب عرض الدرب و لو سقط ذلك الروشن فسبق جاره إلى عمل روشن لم يكن للأول منعه لأنهما فيه شرع كالسبق إلى العقود في المسجد"[3] .

وقلنا أن الحكم يختلف بإختلاف إعتبار فضاء الروشنة حقاً أم ملكاً، وقول المحقق مبنيٌ على إعتبارها حقاً يزول بزوال العين وشبهه بالجلوس في المسجد الذي يزول حق الجلوس مع قيام الإنسان ولو لفترة بسيطة، اما إذا قلنا بكونه ملكاً فيبقى حقه فيه وإن سقط.

وفي تشبيه المسألة بالجلوس في المسجد نظر، إذ أن هناك فرق بين الجلوس في المسجد وما نحن فيه، إذ الأول مجرد مكوث في المسجد بينما هنا هو حيازة، ولا يزول الحق وإن زالت العين.


[1] النساء/السورة4، الآية5.
[2] . لوحدة المناط [المقرر].
[3] شرائع الإسلام، المحقق الحلي، ج2، ص102.