الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/06/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية / كتاب نزاعات الملك

 

جائت الرسالات الإلهية من أجل تنظيم صلة الإنسان في كل الأبعاد، علاقته بنفسه، علاقته بربه، علاقته بالناس وعلاقته بالخليقة من حوله، ولعل قرابة ستين بالمائة من أحكام الشريعة المقدسة تتناول علاقة الناس بعضهم ببعض والتي هي أساس ومحور المدنيات والحضارات البشرية، ومن أبرز أبعاد هذه العلاقات هي التجمعات والتكتلات البشرية.

فالبشر يعيشون في كتل، ومن هذه الكتل المدن والقرى، ولذا كان في الإسلام عشرات الأحكام المرتبطة بالمدينة والمُدُنية والحضارة، وفي هذا الباب الحديث عما يسمى اليوم بالـ (النزاعات الملكية) أو بالخلافات أو أحكام التجمعات، وقد اختصر بعض العلماء الحديث في البحث عن أحكام الرواشن والأجنة وما أشبه بينما القضية أبعد من ذلك، وقد ذكرنا في البحث السابق أن المدينة تحتاج إلى كل ما تحتاجه الأسرة.

المدن الحديثة اليوم فيها الكثير من الإيجابيات ولكن هناك أيضاً الكثير من العجز والنقص، ومن ذلك عدم التخطيط في المدن الحديثة لكيفية تفاهم الناس وتحاببهم وتعاونهم، فقد تجد عمارة من مائة طابق وتسع لقرية كاملة من البشر ولكن تجدهم لا يعرفوا بعضهم البعض.

ومن اسوء ما في المدنية الحديثة – خصوصاً في الفترة الأخيرة – إنتشار العلقة بالشبكة العنكبوتية التي سببت إلى تفكيك الناس عن بعضهم البعض، فترى إبن العائلة يرتبط بأناس حول العالم في حين لا تكون بينه وبين أسرته أي علاقة وإرتباط، أما المدنية الإسلامية فإنها تؤكد على الروابط والأواصر الإجتماعية والتجمعات المستمرة والمتقاربة وكاد أن يحرق النبي الاكرم صلى الله عليه وآله بيوت جماعةٍ لتخلفهم عن حضور الجماعة.

ومضافاً إلى الصلوات الجماعة يجمع المسلمين المراقد المقدسة والحسينيات وبيوت العلماء وغيرها من أماكن تقوي الأواصر الإجتماعية.

وينظم الإسلام أيضاً حقوق الناس على بعضهم البعض، وفي الواقع فحقوقهم المتبادلة متساوية، لأن الله سبحانه ربط كل إنسان بالأرض مباشرةً دون توسط إنسان آخر، فقال سبحانه: ﴿ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ[1] فعلاقتي بالأرض كعلاقة أي إنسانٍ آخر معها، وبإمكان الجميع إستصلاحها والإستفادة منها والتنزه في أطرافها.

ومن القوانين المنظمة لهذا الأمر هو قانون السبق الذي يعني أن من سبق إلى مباحٍ فهو أحق به من غيره، فلا يجوز لي أن أتصرف في مكانٍ سبقني إليه غيري.

ضرورة النظام حين المشاحة

وإن كانت الأرض تسع الجميع فلكلٍ أن يبني مسكنه حيث شاء، ولكن إن كانت الأرض والماء والإمكانات محدودة فيأتي حينئذ دور النظام الذي ينظم الإستفادة منها، كما لو فرض وجود مجموعة في جزيرة محدودة فلا يمكن أن يتصرف كلٌ حسب هواه بل لابد من تنظيم العلاقات بينهم لأن القانون الأولي في هذا المجال هو قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "الناس شركاء في ثلاث: النّار والماء والكلأ"[2] ومعنى ذلك أن للجميع الحق ولابد أن ننظم القوانين ليستفيد منها الجميع كلٌ بقدر حاجته، ولكن من يقوم بهذا التنظيم؟

هناك جهتان للقيام بذلك:

الأولى: ما تسمى اليوم بالحكومة المدنية وأبرزها وأفضلها الحكومات المنتخبة من قبل الناس، والإنتخاب موجودٌ في إنتخاب القاضي الذي يتحاكم إليه والحكم في الأسر وغيرها من المواقع وجامع ذلك كله قوله سبحانه: ﴿وَ أَمْرُهُمْ شُورى‌ بَيْنَهُم‌﴾[3] .

الثانية: الحكومة الشرعية وهي قريبة من الأولى من جهة وبعيدة من جهة أخرى، فهي قريبة من جهة إنتخاب الناس للفقهاء في تقليدهم لهم ومبايعتهم لهم، ولكن بعيدة من جهة وجوب تميز الحاكم الشرعي بصفات معينة وأبرزها الفقه والعدالة، ففي الحديث: "فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ"[4] .

وفي غياب الحكومة الشرعية يتم الإلتزام بقوانين الحكومة المدنية لتوافق الناس عليها وتعارفهم عليها ميثاقهم فيما بينهم على الإلتزام بها.

وللحكومة الشرعية قوانينها الخاصة، فمادام المجتمع هو مجتمع إيماني فلابد أن تنبثق الحكومة الشرعية من إيمانهم ومبدأهم، وهذا طبيعي، فكل مجتمع وبحسب إيمانهم ومبدأهم تنشأ حكومتهم، وهذه حالة طبيعية وفطرية لدى البشر وهي حالة عقلية أيضاً.

 

أبعاد الأنظمة

الأول: تنظيم العمران

فيجب أن يكون العمران منظم خصوصاً مع محدودية الأراضي، فيجب أن تقسم الأراضي على أهلها بالتساوي، أما من أراد شراء حق أحدهم منه فذاك أمرٌ آخر.

الثاني: تنظيم الطرق

والطرق مهمة جداً لأن المساكن لا تكتمل الإستفادة منها إلا عبر الوصول إليها، ويتحقق ذلك بالطرق، وكذا الإهتمام بأمن الطرق وتيسيرها وكونها خالية من العثرات والحفر، بل ولو أحدث أحدٌ في طريق المسلمين حفرة فآذاهم كان ضامناً.

الثالث: مرافق البلد

فالبلد بحاجة إلى مرافق ومنها: المسجد وهي بحاجة إلى مقبرة ومتنزه - إن كان في ذلك حاجة من حاجات الناس بحسب الظروف – ويحتاج إلى مواقف لوسائل النقل أنى كانت، ومضافاً إلى ذلك فالبلد بحاجة إلى صرف المياه ومكب النفايات وطريق معالجتها، وكذا بحاجة إلى المناطق الإدارية وأماكن الإستشفاء وأماكن لضيافة الغرباء (كالديوانيات والفنادق).

وهذه كلها حاجات طبيعية وأمور فطرية لابد أن تتواجد في المدينة لتكتمل فوائدها.

وأنا أضيف – بالإستفادة من آيات سورة الطور- حاجةً من حاجات البلدان وهي الحاجة إلى الدفاع عن المدينة، ففي السابق كانوا يبنون حول المدينة سوراً أو قلاعاً لحفظ أمن الناس من العدو أو السباع، واليوم يمكن مضافاً إلى ذلك القيام بحفر الخنادق وبناء الثكنات العسكرية أو التحصن بالجبال.

مرجع أدلة مسائل الباب

أستفاد فقهاؤنا الأحكام في هذا الباب بشأن الخلافات حول الملكية من قاعدة (لا ضرر) المستفادة من قوله صلى الله عليه وآله: "فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ"[5] .

إلا أن هناك أكثر من نص شرعي يمكن الإعتماد عليه في هذا المجال مضافاً إلى رواية لا ضرر كآية التسخير أو نصوص تحريم الأذى في طريق المسلمين أو نصوص السبق إلى المباحات وكذا النصوص الدالة على أن الأرض لله سبحانه ولمن عمرها.

ويبدو أن عدم إيراد الفقهاء لهذه الطوائف من النصوص كان لوضوحها وعدم الحاجة إلى بيانها، ولكن نحن ينبغي أن ننوه إلى أن حديث لا ضرر ليس وحده المعتمد في سياق تنظيم الشؤون المدنية.

الرواشن والأجنحة

من جملة ما ذكره الفقهاء هو حديثهم عن الرواشن والأجنحة والمرازيب والبلاليع وما أشبه، فاختلفوا في حكمها:

فقال بعضٌ – وهم القليل- إذا اعترض مسلمٌ على ميزابٍ أو بالوعةٍ أو روشنة أو على فتح باب، فلا يجوز لصاحب الدار أن يفعل أحدى تلك الأمور، لأن كل تلك الأشياء إنما تكون على طريق المسلمين وإن اعترض أحدهم فكأن الجميع قد أعترض.

إلا أن أكثر الفقهاء ذهب الى الجواز، فقد ذكر صاحب السرائر عدم وجود المعترضين في زمانهم على فتح الرواشن والأبواب وغير ذلك، وبالتالي يعتمد سيرة المتشرعة فضلاً عن سيرة العقلاء دليلاً على الجواز، ونحن نورد كلام صاحب السرائر قدس سره ومن ثم نذكر رواياتٍ في هذا المجال والتي ينبغي أن نستفيد منها إشاراتٍ إلى تلك الأحكام التي سلف بيانها، قال صاحب السرائر بعد ذكر القولين وتقوية القول بعدم تخريبها مع وجود معارض من المسلمين: "لأنّ المسلمين من عهد الرسول صلى اللّٰه عليه و آله إلى يومنا هذا- و هو سنة سبع و ثمانين و خمسمائة- لم يتناكروا فيما بينهم ذلك، وسقيفة بني ساعدة وبني النجار في المدينة معروفتان، ما أنكرهما أحد من المسلمين، ونفس الطريق غير مملوكة، و انّما يملك المسلمون منافعها، دون رقبتها، فهم مشتركون في المنافع، لأنّ الشركة قد تكون في المنافع، دون الأعيان، و قد تكون في الأعيان والحقوق"[6] .

وفيه:

أولاً: المنع من الإستدلال بالسقيفتان، فالسقائف لم تكن على الطريق بالضرورة، بل بعضها – والتي شاهدناها في المدينة المنورة – كانت على جانبٍ من الطريق، كما يمكن أن تكون تلكم السقائف سابقة على تشييد الطريق.

ثانيا: السيرة ليست دوماً حجةً في أطرافها لأنها غامضة عادة، والحجية تكون في المتيقن منها.

روايات المقام

أما النصوص الروائية فنذكر منها:

رُوِيَ أَنَّ الْفُرَاتَ مُدَّتْ عَلَى عَهْدِ عَلِيٍّ عليه السلام فَقَالَ النَّاسُ نَخَافُ الْغَرَقَ فَرَكِبَ وَ صَلَّى عَلَى الْفُرَاتِ فَمَرَّ بِمَجْلِسِ ثَقِيفٍ فَغَمَزَ عَلَيْهِ بَعْضُ شُبَّانِهِمْ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ وَ قَالَ يَا بَقِيَّةَ ثَمُودَ يَا صَعَّارَ الْخُدُودِ هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا طَغَامٌ لِئَامٌ مَنْ لِي بِهَؤُلَاءِ الْأَعْبُدِ فَقَالَ مَشَايِخُ مِنْهُمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ شَبَابٌ جُهَّالٌ فَلَا تَأْخُذْنَا بِهِمْ وَ اعْفُ عَنَّا قَالَ لَا أَعْفُو عَنْكُمْ إِلَّا عَلَى أَنْ أَرْجِعَ وَ قَدْ هَدَمْتُمْ هَذِهِ الْمَجَالِسَ وَ سَدَدْتُمْ كُلَّ كُوَّةٍ وَ قَلَعْتُمْ كُلَّ مِيزَابٍ وَ طَمَسْتُمْ كُلَّ بَالُوعَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَ فِيهِ أَذًى لَهُمْ فَقَالُوا نَفْعَلُ وَ مَضَى وَ تَرَكَهُمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ"[7] .

ونستفيد من فعل أمير المؤمنين عليه السلام وقوله عدم جواز وجود أي شيء في طريق المسلمين فيه أذى لهم، وبذلك يمكن أن نضيف إلى المصاديق التي بينّها أمير المؤمنين عليه السلام، المحلات التي تفتح على الطرقات والتي يؤدي فتحها إلى أذية المارة – خصوصاً في المناطق المزدحمة-.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَ بَابَ دَارِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ أَوْ يَفْتَحَ مَعَهُ بَاباً غَيْرَهُ فِي شَارِعٍ مَسْلُوكٍ نَافِذٍ فَذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَراً بَيِّناً وَ إِنْ كَانَ فِي رَائِقَةِ سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ لَمْ يَفْتَحْ فِيهَا بَاباً وَ لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ مَكَانِهِ إِلَّا بِرِضَى أَهْلِ الرَّائِقَةِ"[8] .

وَ عَنْهُ عليه السلام: "أَنَّهُ نَهَى عَنْ إِخْرَاجِ الْجُدُرِ فِي طُرُقَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَ قَالَ مَنْ أَخْرَجَ جِدَارَ دَارِهِ إِلَى طَرِيقٍ لَيْسَ لَهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ رَدَّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ"[9] .

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قال: " إِذَا قَامَ الْقَائِمُ عليه السلام دَخَلَ الْكُوفَةَ وَ أَمَرَ بِهَدْمِ الْمَسَاجِدِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى يَبْلُغَ أَسَاسَهَا وَ يُصَيِّرُهَا عَرِيشاً كَعَرِيشِ مُوسَى وَ تَكُونُ الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا جَمَّاءَ لَا شُرَفَ لَهَا كَمَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ يُوَسِّعُ الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ فَيُصَيِّرُ سِتِّينَ ذِرَاعاً وَ يَهْدِمُ كُلَّ مَسْجِدٍ عَلَى الطَّرِيقِ وَ يَسُدُّ كُلَّ كُوَّةٍ إِلَى الطَّرِيقِ وَ كُلَّ جَنَاحٍ وَ كَنِيفٍ وَ مِيزَابٍ إِلَى الطَّرِيقِ"[10] .

فمن حيث العموم تتوافق هذه الروايات مع تلك الأصول التي سبقت الإشارة إليها.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1] الحج/السورة22، الآية65.
[2] جامع أحاديث الشيعة، سيد حسين طباطبائي بروجردي، ج26، ص1028.
[3] الشورى/السورة42، الآية38.
[4] التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام، ص300.
[5] الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص293.
[6] السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى، ابن ادريس الحلبي، ج2، ص66.
[7] بحار الأنوار، العلامة مجلسي، ج101، ص254.
[8] مستدرك الوسائل، المحدث النوري، ج17، ص120.
[9] مستدرك الوسائل، المحدث النوري، ج17، ص120.
[10] الغيبة، الشيخ الطوسي، ص475.