الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/06/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الصلح في الشركة، لزوم عقد الصلح وجوازه / كتاب الصلح

 

بحث الفقهاء بعض المسائل المتفرقة في كتاب الصلح والتي ذكرت لوجود بعض المناسبة مع الباب ومنها ما لو أراد أحد الشريكين فسخ الشركة فصالح شريكه بأن يأخذ هو رأس ماله ويترك الربح لشريكه والخسران عليه وقبل الثاني، فقد صح الصلح، لأن الصلح خيرٌ وهو جائز إلا ما أحل حراماً أو حرّم حلالاً، وذلك بالرغم من أن الشركة تقتضي بطبعها تقسيم الربح والخسران على الشركاء فتمنع الشركة فيما لو كان الربح والخسران لأحدهما ورأس المال للثاني، بل وقد منع بعض الفقهاء التصالح على هذا النحو من الشراكة، لأن الصلح المعتمد هو الذي لم يخالف الشرع وهذا مخالف لمقتضى عقد الشراكة.

أقول: بالرغم من ذلك فلو تمت الشراكة على أسس صحيحة واختلفت من ثم الظروف، جاز التصالح بينهما على أن يأخذ احدهما رأس ماله ويدع الربح والخسارة للثاني، وفي هذا المجال بعض الروايات:

عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي مَالٍ فَرَبِحَا فِيهِ وَ كَانَ مِنَ الْمَالِ دَيْنٌ وَ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَعْطِنِي رَأْسَ الْمَالِ وَ لَكَ الرِّبْحُ وَ عَلَيْكَ التَّوَى فَقَالَ: "لَا بَأْسَ إِذَا اشْتَرَطَا فَإِذَا كَانَ شَرْطٌ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ رَدٌّ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ"[1] .

فالمال في الرواية هو الإشتراك في عملٍ في المال كما يظهر، وكذلك يبدو من لفظ الإشتراط معنى التصالح لا الشرط الأولي، والتقييد في ذيل الرواية يستفاد منه عدم جواز بعض صور التصالح في الشراكة لتأديته إلى الربا المحرم.

ومثله عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي مَالٍ فَرَبِحَا رِبْحاً وَ كَانَ مِنَ الْمَالِ دَيْنٌ وَعَيْنٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَعْطِنِي رَأْسَ الْمَالِ وَ الرِّبْحُ لَكَ وَ مَا تَوِيَ فَعَلَيَّ فَقَالَ: "لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا اشْتَرَطَا وَ إِنْ كَانَ شَرْطاً يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ رُدَّ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ"[2] .

ونصوص مشابهة أخرى، ولم يختلف الفقهاء في العمل بهذه النصوص لموافقتها المعايير الأساسية للصلح ومنها كونه جائزاً بين المسلمين إلا ما أحل حراما أو حرم حلالاً وفي هذه الروايات تأكيد على هذا الشرط.

 

التمييز بين الحدود الشرعية والاطلاقات

ومن الإشكاليات الواردة في المقام والسارية في سائر العقود هي إشكالية التمييز بين الأحكام التي تمس جوهر العقود والتي لا يمكن تغييرها ورفعها بالشرط أو بالصلح أو بما أشبه لأن ذلك يؤدي إلى تغيير حقيقة العقد، وبين ما يرتبط بحالات الإطلاق في العقد فيمكن تغييره، فتبديل العين بالعين هو جوهر البيع الذي لا يمكن تغييره بينما أن يكون بزيادة أو نقيصة بسلمٍ أو نسيئة، بثمن البلد أو غيره فهذه راجعةٌ إلى الإطلاقات وبالتالي مرتبطة بالعرف.

فالتمييز بين ما هو مرتبطٌ بجوهر العقد أو بإطلاقه بحاجة إلى فقاهة ومعايير مفرّقة، ونحن نميّز بينهما بأن الشيء المرتبط بحق الإنسان يمكن له أن يتنازل عنه او يتصالح عليه، أما ما يرتبط بحكم الله سبحانه – وخصوصاً مع وجود النصوص – فهي أمورٌ ترتبط بجوهر العقد لا يمكن المساس بها.

 

الصلح بين اللزوم والجواز

قالوا بلزوم عقد الصلح من الطرفين بإعتباره عقداً من العقود وهي لازمةٌ إلا ما خرج بالدليل، فهنا جهتان للحديث عن المقام:

الأولى: عن أصالة لزوم العقود، فهل هناك أدلة كافية تقتضي لزوم كل عقدٍ إلا ما استثني بدليل؟

أستند الذاهبون إلى إقتضاء العقود اللزوم بقوله سبحانه: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُود[3] ، بتقريب أن الوفاء هو الوفاء بالتزامات العقد فيدل على لزوم العقود.

وأجيب عن ذلك بأن الآية شاملةٌ للعقود الجائزة أيضاً فتدل على وجوب الوفاء بها ولا قائل بلزومها، فالوفاء في كل عقدٍ بحسبه وهو تكليف الإنسان بالالتزام به أما محتوى العقد فراجع إلى المتعاقدين.

ونحن نرجّح القول الثاني، فالآية لا تدل على لزوم كل العقود وليس هناك دليل آخر يدل على أصالة لزوم العقود، إنما العقود تتبع القصود وكل عقد يجب الوفاء به حسب مقتضاه.

الثانية: إذا لم يكن الأصل هو لزوم العقود – خلافاً للمشهور- فهل الصلح من العقود اللازمة أم يدخل ضمن العقود الجائزة؟

يرجع ذلك إلى ما اصطلحا عليه، وإلا فإلى العرف الذي يرى الصلح عقداً لازماً غالباً، خصوصاً في الصلح الذي يأمر به الشرع في موارد لا يجوز للطرفين فسخ الصلح لأمر الشارع به ويسمى بالصلح الإجباري، ومثاله الطلاق الخلعي أو الذي أمر به الشرع فيكون فيه بينونة صغرى.

فإذا أجرى المتصالحان صلحهما بناءاً على مذهب العرف ورأى العرف اللزوم فهو لازم، أما إن كان العرف يرى الجواز أو خالف المتصالحان رأي العرف بل تبانيا على جوازه فهو كذلك، لإرتباط العقد بنية الطرفين.

وهذا يختلف عما إذا كان هناك إشتراط للخيار، فتزلزل عقد الصلح أمرٌ وإشتراط أحد المتعاقدين الخيار أمرٌ آخر لا مدخلية له في جواز العقد ولزومه.

قال المحقق الحلي في هذا الصدد: "و هو لازم من الطرفين مع استكمال شرائطه إلا أن يتفقا على فسخه"[4] واستدل صاحب الجواهر لذلك بما ذكر من آية وجوب الوفاء بالعقد، ويستثني من ذلك فروعاً بناءاً على مذهب الشيخ الطوسي الذي ذهب إلى كون الصلح فرعٌ من كل عقدٍ أفاد فائدته لا عقداً قائماً برأسه، فقال قدس سره: "بلا خلاف، لعموم «أَوْفُوا» و غيره من أدلة اللزوم التي سمعتها في غيره من العقود نعم يجي‌ء ملحق به على قول الشيخ الجواز في بعض موارده، كما إذا كان فرع العارية أو الهبة على بعض الوجوه، بناء على أن مراده لحوقه حكم ما أفاد فائدته، أما على المختار فليس إلا على اللزوم"[5] .

أراد صاحب الجواهر قدس سره ببيان رأي الشيخ إظهار عدم مخالفة الشيخ للإجماع بالقول بجواز الصلح، بل لكونه تابعاً للعقود الأخرى فإن كان تابعاً لعقد جائز فهو جائز.

نقول: قول صاحب الجواهر (بلا خلاف) ورد إعتماداً منه على أن الأصل في العقود اللزوم، ومع زعزعة هذا الأصل والقول بأنها تابعة للقصود -–كما مرّ- فلا يبقى مستندٌ للإجماع القائم بعد كونه إجماعاً مدركياً، والحجة في الإجماعات المدركية او محتملة الإستناد هو المستند الذي اعتمده الإجماع وأفتى وفقه والله العالم.


[1] الكافي، الشيخ الكليني، ج10، ص364.
[2] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، 229.
[3] المائدة/السورة5، الآية1.
[4] شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام، المحقق الحلي، ج2، ص99.
[5] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج26، ص219.