الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: رجوع الكفيل على المكفول/كتاب الكفالة

 

"و لو قال إن لم أحضره كان علي كذا لم يلزمه إلا إحضاره دون المال و لو قال علي كذا إلى كذا إن لم أحضره وجب عليه ما شرط من المال"[1] .

 

لو عجز الكفيل أو امتنع عن إحضار المكفول فعليه أن يغرّم ما على المكفول للمكفول له – كما مرّ- ولكن هل يكون قرار ضمان هذا المال على المكفول في النهاية أم لا؟

قبل الدخول في هذا البحث نشير إلى ما مضى بأن الوظيفة الأساسية للكفيل هي إحضار المكفول ليس إلا، أما دفع البدل فإما يكون بسبب عدم إحضاره وإما الإتفاق عليه ضمن العقد، أي يكون عقد الكفالة مردداً بين الإحضار ودفع المال الثابت في ذمة المكفول، فلو دفعه الكفيل هل له الرجوع على المكفول؟

فهنا صور:

فقد تكون الكفالة بإذن المكفول ورضاه فعليه الحضور وبعدم حضوره عليه أن يدفع ما دفعه الكفيل لإذنه بالكفالة، وكذا لو أذن للكفيل بالاداء – وإن لم يأذن بالكفالة – كما لو امتنع عن الحضور ولكنه أذن للكفيل دفع البدل.

أما مع عدم إذنه بالكفالة أو الدفع فهل هو مسؤول عما اغترمه الكفيل أم لا؟ وهذا التساؤل يعيدنا إلى بحثٍ سابقٍ ذكرناه عن وجود جابر للضرر الإنسان، فلو تضرر إنسانٌ هل له البحث عمن يجبر ضرره أم لا؟

وقد جاء الفقه الحديث بعنوان (الإثراء بلا سبب) الذي يطرح في بعض جوانبه حكماً بوجوب جبر ضرر المتضرر إن كان تضرره لمصلحة شخصٍ آخر، فالمستفيد مسؤول عن جبر ضرر المتضرر.

أما فقهائنا فناقشوا المسألة في إطار مناقشتهم لقاعدة (لا ضرر) وهل هي شاملة لوجوب جبر الضرر أم مقتصرة على نفي طبيعة الضرر، وبالرغم من أنهم فهموا من القاعدة المعنى الأوسع (أي وجوب جبر الضرر الواقع) في بعض المسائل كمسألة الغبن، إلا أنهم لم يعمموا فهمهم هذا على سائر الموارد.

إلا أن صاحب العناوين[2] وبخلاف مشهور الإمامية ذهب إلى شمول القاعدة حالة وقوع الضرر ووجوب الجبران، فلا ضرر يعني وجوب جبران الضرر كما يعني نفيه وقوعاً، كما ذهب إلى ذلك فقهاء المذاهب الأخرى، حيث أدخلوا القاعدة في قاعدة الإتلاف والتغرير و غيرهما من المسائل.

فإن قلنا بدلالة قاعدة لا ضرر على الجبران فلابد من القول برجوع الكفيل – في المقام – إلى المكفول فيما دفعه، لأنه رجلٌ محسن والكفالة هي من باب الإرفاق عادةً، فلا يعقل أن يخسر أمواله مضافاً إلى خسرانه لسمعته ونصبه في تكفلّه للمكفول.

ومن هنا؛ قال بعض الفقهاء[3] [4] برجوع الكفيل على المكفول حتى مع عدم إذنه بالكفالة أو الدفع، إذ يجب أن يكون قرار الضمان نهايةً على المكفول لأنه هو الرابح، اللهم إلا في حالة تبرع الكفيل، بان كان قصده التبرع منذ البدء.

ولهذه المسألة فروع لا حاجة للخوض فيها ههنا مثل ما سنبحثه في مسائل الاختلاف، من اختلاف الكفيل والمكفول بقيام الكفالة بإذن المكفول، فادعى الكفيل الكفالة بإذن وأنكر المكفول ذلك، فالأصل – كما قال الفقهاء – هو عدم الإذن، ونحن نقول بذلك أيضاً إلا إذا كان الظاهر خلاف ذلك، كما لو كان الكفيل عاقلاً والكفالة كبيرة ولا يقوم شخصٌ عاقل بكفالةٍ كهذه تبرعاً ومن دون إذن، فتكون المسألة مورداً من موارد التعارض بين الأصل والظاهر التي فصلنا الحديث عنها سابقاً وقلنا: بمرجعية الظاهر إن كان لظهوره قوة، الأمر الذي يحدده القاضي، ومع عدم قوته يكون المرجع للأصل.

 

مسألة: بين الإحضار ودفع المال

قال المحقق قدس سره: "و لو قال إن لم أحضره كان علي كذا لم يلزمه إلا إحضاره دون المال و لو قال علي كذا إلى كذا إن لم أحضره وجب عليه ما شرط من المال"[5] .

فالفرق بين تعبيري تقديم الإحضار أو تقديم المال، ودليل هذه المسألة هي روايات المقام، إذ هناك أكثر من رواية تبين هذا الحكم وسنذكرها، ولكن لو عرضنا الروايات على القاعدة سنرى عدم الفرق بين هذا التعبير أو ذاك، إلا إذا اعتمدنا النص دون القاعدة فلابد أن نفرق بين التعبيرين، ومن الفقهاء من اعتمد النص حرفياً[6] وفرّق بين التعبيرين، ومنهم من اعتبر الرواية معبرّة عن العقد الجاري بين الكفيل والمكفول له، فقد يكون محور العقد الشخص وقد يكون المال، فالتعبير في الروايات جاء معبراً عما هو في الواقع الخارجي فتكون الرواية طبقاً للقواعد، وبعبارة أخرى: بما أن العقود تابعة للقصود وبما أن العبارات قنطرة المعاني، فليس ثمة فرق في التقديم والتأخير إلا للاختلاف في إهتمام المتعاقدين، فإن كان هدف المكفول له الحصول على المال قدم المال وإلا فالإحضار، أما الروايات فهي:

خبر البقباق عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَتَكَفَّلُ بِنَفْسِ الرَّجُلِ إِلَى أَجَلٍ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَعَلَيْهِ كَذَا وَ كَذَا دِرْهَماً قَالَ: "إنْ جَاءَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَا قَالَ وَ هُوَ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ أَبَداً (إلى النهاية) إِلَّا أَنْ يَبْدَأَ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنْ بَدَأَ بِالدَّرَاهِمِ فَهُوَ لَهَا ضَامِنٌ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ"[7] .

هل المراد بالبدء بالدراهم تعبيراً أم كون الدراهم قصده الأساس؟

وكلمة (أعطيك الدراهم) حقيقتها ضمان المال وإن اختلطت مع الكفالة، فالرواية إذاً ليست بعيدة عن القواعد لأن الضمان شيء والكفالة شيء آخر، فالأول محوره المال والثاني النفس.

عن أبي العباس قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل تكفل لرجل بنفس رجل و قال: إن جئت به و إلا فعلي خمسمائة درهم (كما في التهذيب) و في الكافي (إن جئت به و إلا فعليك خمسمائة درهم)، و فيهما معا قال: "عليه نفسه، و لا شي‌ء عليه من الدراهم، فإن قال: علي خمسمائة درهم إن لم أدفعه اليه قال: "يلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه"[8] .

قال بعض الفقهاء لا شأن لنا بمحتوى العقد، بل يهمنا التعبير، فإذا قدّم الإحضار كان هو، وإن قدم المال كان عليه دفعه، إلا أن هذا الكلام بعيد عن القواعد، ولذا يستبعد صاحب الجواهر[9] تأسيس الرواية لقاعدة جديدة والتعبد بها، وعلى الأقل يقال أن الرواية من المتشابهات التي أمرنا في ردها إلى المحكمات، وقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام قوله: "إِنَّ فِي أَخْبَارِنَا مُتَشَابِهاً كَمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَ مُحْكَماً كَمُحْكَمِ الْقُرْآنِ فَرُدُّوا مُتَشَابِهَهَا إِلَى مُحْكَمِهَا وَ لَا تَتَّبِعُوا مُتَشَابِهَهَا دُونَ مُحْكَمِهَا فَتَضِلُّوا"[10] .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.


[1] شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، ج2، ص97.
[2] السيد مير عبد الفتاح المراغي، م 1250 هـ. [المقرر].
[3] جواهر الكلام، الشیخ محمدحسن النجفی، ج26، ص191.
[4] مهذب الأحكام، سید عبدالاعلی سبزواری ج20، ص350.
[5] شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی، ج2، ص97.
[6] كالمحقق والعلامة والشهيد الأول وغيرهم.
[7] من لا يحضره الفقيه، الشیخ الصدوق، ج3، ص96.
[8] تهذيب الأحكام، شیخ الطایفة، ج6، ص210.
[9] جواهر الكلام، شیخ محمد حسن النجفیف ج26، ص193.
[10] عيون أخبار الرضا عليه السلام، الشیخ الصدوق، ج1، ص290.