الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مقدمات / كتاب الكفالة

 

بحوث تمهيدية

الضمان والحوالة والكفالة أبواب متشابهة وبعد أن وفقنا الرب سبحانه للمرور على البابين الأولين وصل المقام إلى الكفالة، وقبل الحديث عنها لابد من أن نمهد ببعض التمهيدات:

 

التمهيد الأول

إن منهجية البحث في العلوم المختلفة تختلف من مدرسة إلى أخرى، والمدرسة المختارة عندنا – اتباعاً لما فهمناه من الكتاب العزيز- تعتمد على النظرة الكلية إلى الحقائق ومن ثم التفرع إلى الجزئيات.

فالنظرة الكلية للعلوم تشبه نظر الإنسان في خارطة المدينة ثم يسير داخل المدينة بحثاً عن التفاصيل التطبيقية لما رأه في الخارطة، وبذلك يتعرف على المدينة بشكل جيد لأنه نظر نظرةً كلية ثم تابع تلك النظرة بالبحث عن الجزئيات.

النظرة الكلية للعلوم كانت هي الأساس سابقاً وكانت تسمى بالـ "فلسفة"، أما اليوم فالنظرات الدقيقة والتخصصية هي التي أصبحت ميزان العلوم المختلفة، ونحن نجد اليوم أن التخصص وصل إلى درجة قد يضيع الإنسان النظرة الكلية للأمور، فالطبيب المتخصص في الأذن قد لا يعرف شيئاً عن العين، بينما الحياة مترابطة شئنا أم أبينا.

النظرة التي استفيدها من القرآن الكريم، أن الله سبحانه يذكرنا أولاً بذاته وبأسمائه الحسنى ثم يذكرنا بصراطه ثم بسننه ثم يذكرنا بآياته ومن ثم بوصاياه ثم يذكرنا بالأحكام الشرعية ومن ثم بالآداب، في تدرج وتسلسل غريب، إذا درسه الإنسان فيما يرتبط بكل موضوع خصوصاً فيما يرتبط بأسمائه الحسنى، يجد أنها ترتبط بالموضوع المطروح ارتباطاً وثيقاً.

وهذه النظرة ضرورية فيما يرتبط بباب الفقه أيضاً، فحينما نبغي البحث في أي باب لابد من أن ننظر في الفقه وقواعده وأصوله ومن ثم نتدرج إلى التفاصيل، ولا يعني ذلك الإكتفاء بالعمومات والقواعد، بل لابد من إلانطلاق منها إلى الجزئيات.

 

التمهيد الثاني

من المعروف أن الله خلق الإنسان ليبتليه وكما قال عزوجل: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْناهُ سَميعاً بَصيرا[1] ، والإبتلاء يقتضي الحرية، فإن كان الأنسان فاقد للحرية لما كان للإبتلاء موضوع، فلابد من إمتلاكه للحرية الكافية لاختيار طريقه ونجده في الحياة، وربما فلسفة وجود الشيطان هي إيجاد التوازن بينه وبين الإنسان، وربنا أعطى الإنسان من مشيئته قبساً حتى يختار، وكما قال الله سبحانه: ﴿وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَليماً حَكيما[2] .

وجاء الشرع المقدس محفزاً للإنسان ومبيناً له الحدود، ومن وراء الحدود أعطى للإنسان قدراً من الإختيار وما يسمى بهامش الحرية للإنسان، وبعبارة أخرى أن الله سبحانه أمرنا بأمور ونهانا عن أمور ثم أطلق الأمر في غيرها، ولذلك نجد في الآيات والروايات الشريفة دلالة على ما سمي بـ(أصل البرائة) والذي يعني عدم التكليف على الإنسان حين لا تكون هناك نصوص شرعية حاكمة.

ومن ذلك في باب العقود حيث بين ربنا أحكاماً معينة لها، كحرمة الربا والنهي عن الغرر والجهالة وغيرها من المناهي وضرورة إقامة القسط ووجود التراضي وما أشبه، والتي بينها سبحانه في أماكن متفرقة من كتابه الكريم، كما بيّن أكثرها مجتمعة في آية الدين – التي فصّلنا الحديث عنها في باب الضمان -، وقد ذكرت بعض الأحكام ضمن سياق الحديث عن قصص الأنبياء السابقين عليهم السلام مثلما كان في قصة يوسف الصديق عليه السلام من ضمان الجعالة، ومثل ما كان في قضية تزويج موسى عليه السلام من ابنة نبي الله شعيب ومهرها، وكذا في قصة النبي زكريا عليه السلام في تكفله لمريم عليه السلام وغيرها، وهذه الأحكام بينت بصورة امثلة تاريخية وأمثلة القرآن الكريم لها دلالات واقعية.

وبعد تلك الأحكام كان للناس الحرية في التعاقد ما دامت عقودهم متوافقة مع تلك الأصول، ولكن حدث الإختلاف في تحديد الناس من هم؟

فقال بعض أن كل عقد كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وجب الوفاء به دون غيره من العقود اللاحقة على زمان النبي صلى الله عليه وآله لأنه لم يكن عهداً ملزماً أو واجب الوفاء.

وقال بعضٌ أن كل عقد جرى عليه الشرع أو جرى عليه المسلمون وجب الوفاء به وإن كان مستحدثاً، لإتفاق المسلمين عليه.

وقال بعضٌ بوجوب الوفاء بكل عقدٍ عرفي، فالعرف يحدد المصداق وبعد تحديد المصداق يأتي الحكم من الشرع، فإن سميت المعاملة عقداً عند العرف شمله وجوب الوفاء بالعقد.

والرأي الرابع يرى عدم الحاجة إلى العرف في إمضاء العقود، بل قال بأن كل عقد لم ينه عنه الشرع المقدس وكان هناك تراضي بين المتعاقدين فهو صحيح ويجب الوفاء به إن لم ينه عنه الشرع والعقل.

ويبدو من صاحب العروة قدس سره في كتاب الضمان أنه يتبنى الرأي الرابع، ولو فرض وجود عقود جديدة فأول شخصين يتعاقدان على أمره وقبل أن يتحول إلى عرف، فهل يصح عقدهم؟ بلى؛ يصح بناءاً على مختار صاحب العروة.

وهناك مجموعة هائلة من العقود الحديثة التي لم تكن متداولة من قبل بين الناس، والتي لم تتحول بعدُ إلى عرف سائد، مثل اعتبار التوقيع الالكتروني، وكذا القوانين الحاكمة للإنسان الآلي المخترع جديداً.

فنحن لا يمكننا أن نعتمد ما يجري عليه العرف دوماً، لإحتمال عدم قيامه في بعض الأحيان مع وجود العقود الخارجية الحديثة، فلابد من القول بأن اطلاقات الوفاء بالعقود تشمل العرف الخاص وإن لم يسري إلى العرف العام.

 

عقد الكفالة

أصل لفظة الكفالة من (كفل) تعني (ضمّ) فكفله وتكفله يعني ضمّه والفرق بين كفله وتكفله هو الفرق بين الفعل ومبالغته وتشدده، كفكر وتفكر، مضافاً إلى وجود بعض الصعوبة في باب التفعل كتكفّل اليتيم، والكفالة من التكفّل لكن حين تكون للفعل نسبة يخرج من الثلاثي مزيد ويرجع إلى ثلاثي مجرّد.

فتكفّل اليتيم يعني ضمه إلى بيته، وربنا سبحانه حين يذكر قصة النبي زكريا عليه السلام یقول: ﴿وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا[3] ويقول أيضاً: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ[4] ، فتكفّل زكريا لمريم عليهما السلام بمعنى صيرورة مريم بعهدته ومن عائلته.

وهذا المعنى له شعبتان:

الأولى: التكفل بمعنى التعهد بين العبد وربه، فالمتكفل لليتيم يقوم بذلك بينه وبين الله سبحانه دون أن يكون هناك من يلزمه على ذلك، وهذا التكفل إيقاع كالنذر والعهد، فهو خارج تخصصاً عن باب الكفالة.

الثاني: التكفل الذي يكون عقد هو عقد الكفالة، المتقوم بثلاثة أطراف، الطرف الأول هو الكفيل والثاني هو الطالب والثالث هو المطلوب، والكفيل يتكفل المطلوب لدى الطالب، سواء لدينٍ أو عملٍ أو حد، فالكفيل يكفل المكفول (المطلوب) للمكفول له (الطالب)، ولا ريب بوجوب التعاقد بين الكفيل والمكفول له.

وبقبول المكفول له تلزم الكفالة، ويعني صيرورة المكفول في ذمة الكفيل، والذي يعني قيام الكفيل مقام المكفول وكأنه هو نفسه.

وهل يعتبر قبول المكفول ورضاه؟ قال بعضٌ بعدم إعتباره لعدم مدخليته في العقد، وقال بعضٌ بإعتبار رضاه لكونه أحد أركان القضية لإحتمال عدم قبوله بالكفيل لسببٍ من الأسباب المادية أو المعنوية، مضافاً إلى كون الناس مسلطون على أنفسهم، فقبوله بالكفالة كقبول المحال عليه في الحوالة، والمشهور بين المتأخرين هو الثاني.

إن اعتمدنا في مسألة الكفالة على الآيات القرآنية الدالة عليها والروايات الدالة على شرعية الكفالة وكذا على الإجماع، أقول إن اعتمدنا على هذه الأدلة الثلاثة، فالأدلة غير مطلقة، بمعنى أننا لو شككنا في صحة صورة من صور الكفالة، لا يمكننا الإعتماد على الروايات لعدم وجود الإطلاق فيها، وكذا الإجماع فلأنه دليلٌ لبي لا إطلاق فيه، وأما الآيات فهي ذكرٌ لقصص الكفالة دون بيان الأحكام العامة، سوى آية واحدة ربما يستفاد منها الإطلاق والتي لم يذكرها الفقهاء في استدلالاتهم، وهي آية ذا الكفل إن كان تفسيرها زكريا عليه السلام الذي تكفل الأنبياء، والآية هذه لا تدل بذاتها بل لابد من الاعتماد على تفسيرها.

ونحن نرى أن استدلالنا على الكفالة وأحكامها يكون على الإطلاقات والعمومات، كوجوب الوفاء بالعقد.

فمن أراد البحث عن المسائل المستحدثة في الكفالة وبعض أنواعها الجديدة، لا يمكنه الإعتماد على آيات وروايات الباب ولا على الإجماع في المقام، بل لابد له أن يستفيد من الروايات والآيات العامة، والله العالم.

 


[1] الإنسان/السورة76، الآية2.
[2] الإنسان/السورة76، الآية30.
[3] آل عمران/السورة3، الآية37.
[4] آل عمران/السورة3، الآية44.