الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الحوالات المستحدثة / الحوالة التضامنية، الحوالة بغير جنس الدين / كتاب الحوالة

المسائل المستحدثة في كتاب الحوالة لم تكن مستبعدة من كلمات فقهائنا الكرام عبر التاريخ، ولكن ربما هناك بعض التفاصيل التي تختلف بين فقيهٍ وآخر وربما كانت هناك مسائل مطروحة لدى علمائنا السابقين ثم نسخت بإعتبار عدم وجود مصاديق خاصة لها في العصور المتأخرة، فلم يتداولها المتأخرون.

ولكن يبدو أن بعض تلك المسائل عادت مرة أخرى إلى الظهور وبأشكال جديدة، ومن هنا نحن نبين تلك المسائل بشيء من التفصيل ولكن قبل ذلك نمهد للحديث بتمهيدين:

 

التمهيد الأول: محورية التراضي

ذكرنا سابقاً أن التراضي هو المحور في المعاملات، فبإعتبار ذلك إن لم يكن هناك مانعٌ شرعي في عقدٍ من العقود المتعارفة بين الناس والمتراضى عليها بينهم، ينبغي أن نقول بصحة العقد، وهذا رأي أكثر فقهائنا، إلا أن صاحب الجواهر شكك في هذا الأمر في بعض العقود ويبدو من حديثه أنه لا يوافق على مبنى تصحيح كل عقدٍ عرفي ويقول أن العقود الصحيحة هي الثابتة في الشريعة، فالحوالة مثلاً هي الحوالة المعهودة هي الصحيحة ويشكك في صحة المستحدث منها، ويذهب إلى أن الأصل عدم التأثير إلى مقتضياته لكن باقي الفقهاء ومنهم صاحب العروة يصحح المستحدثات من العقود ما دامت عقود عرفية ولم ينهى عنها الشرع المقدس وتدخل في عمومات الوفاء، كما مرّ ذلك في باب الضمان.

ونحن في باب الحوالة نعتمد على جانب صحة العقود المعتمدة لدى العرف والممضاة من قبل الشارع بعدم ورود نهيٍ شرعي عنها.

 

التمهيد الثاني: الإطلاق في الحوالة

عقد الحوالة بإطلاقه يعني إحالة المديون دائنه على مديونٍ له، فيكون المحيل مديوناً من جهة ودائناً من جهة أخرى وبالحوالة تبرء ذمته من دين المحال، وتكون العلاقة بين المحال والمحال عليه.

ولا إشكال في الحوالة على هذا الوجه إنما الكلام في سائر الأقسام التي لابد أن تتوفر فيها إحدى الحجتين:

     إما أن يعتبر العرف المعاملة حوالةً.

     وإما أن يشترط المتعاقدان ذلك، لكون العقود تابعةٌ للقصود.

 

    1. الحوالة التضامنية

في الحوالة تبرء ذمة المحيل بمجرد الحوالة وتشتغل ذمة المحال عليه للمحال، ولكن فيما إذا اشترطا (المحيل أو المحال أو كلاهما) بقاء إشتغال ذمة المحيل وضم ذمة المحال عليه إليها فهل تصح الحوالة؟ ولا يكون ذلك على نحو واحد بل هناك حالات مختلفة:

    1. فتارة يحيله على المحال عليه مع إبقاء ذمته، ويكون ذلك على نحو التخيير للمحال، كما لو قال المديون لدائنه: يوم غد خذ مالك من أبني أو خذه مني.

    2. وتارة يكون التضامن ترتبي، بأن يحيله على المحال عليه ولكن إن امتنع المحال عليه من الدفع فيعود على المحيل، كما لو قال المحيل لدائنه: "إذهب إلى زيد فإن لم يعطك عد عليّ".

    3. وقد يكون التضامن تخييري ولكن بين شخصين كلاهما محال عليه، فلا يعود المحال على المحيل بل يتخير بين اثنين، كما لو قال المحيل للمحال: "احلتك على زيد أو عمرو".

    4. وقد يكون التضامن ترتبي على النحو السابق، كما لو قال للمحال: "احلتك على زيد فإن امتنع فعلى عمرو".

 

وكل صور الحوالة السابقة صحيحة بل وقائمة في الواقع أيضاً، فكثير من حوالات اليوم نجد أن ذمة المحيل لا تسقط بمجرد الحوالة.

ولكن ما الذي يرد على هذا النوع من الحوالة من إشكالات؟

قد يشكل عليه من جهة عدم فراغ ذمة المحيل، فكيف لا تبرء ذمته بالحوالة وهو المقصود من العقد؟

ويرد عليه: أن لا إشكال في بقاء إشتغال ذمة المحيل، فليس الإبراء جزءاً من معنى الحوالة، لأنه سبق وأن بينّا أن كل عقد له حقيقته وجوهره، وله معناه في حالة الإطلاق، وهل جوهر الحوالة هو الإنشغال الملازم للبراءة أم أن هذا هو ما يكون في حالات الإطلاق مع كون الجوهر هو مجرد الإحالة دون النظر إلى براءة المحيل وعدمها؟

يبدو أن الحق براءة ذمة المحيل لا من جوهر الحوالة، بل ذلك يكون في حالات الإطلاق.

فتبين أن الحوالة التضامنية بين المحيل والمحال عليه سواء على نحو التخيير أو الترتب، صحيحة ولا إشكال فيها.

وفيما لو بان إعسار المحال عليه الأول أو مات فللمحال أن يرجع على الثاني، وكذا لو فقد المحيل الأهلية بموت أو حجر فتنتقل الذمة إلى المحال عليه، فبإنعدام إحدى الذمم عاد المحال على الذمم الأخرى.

 

    2. الحوالة بغير جنس الدين

وتعني هذه الحوالة أن يحيل المحيل دائنه على المحال عليه بغير ما اشتغلت به ذمة المحال عليه تجاهه، كما لو كانت ذمة المحال عليه مشغولة ببضاعة وأحال عليه بمال، أو ببضاعة أخرى.

وقبل أن نتحدث عن الحوالة نرجع التساؤل عن جواز الأمر في استيفاء الدين، فهل يجوز أن يستوفي الدائن دينه بغير جنس الدين؟

نعم؛ يجوز له ذلك شريطة رضا المدين، وبصحة ذلك في الدين يصح في الحوالة أيضاً، لأن الحوالة نوع أدء دينٍ، ويرتبط هذا العقد مع كل المعاملات، فربما يتعلق بثمن البيع أو بدل الإيجار والمهر او.. فمادامت العقود تحوي الأخذ والعطاء فيمكن أن يكون فيها دينٌ وحوالة.

وإذا جاز الأمر فلا فرق بين أين يحيله على شعيرٍ وهو يطلبه حنطة، أو يحيل عليه بمالٍ وهو مدينٌ له ببضاعة أو بالعكس، فكل ذلك يجوز شريطة رضا المحال عليه، لأن رضاه ركنٌ في الحوالة كما مرّ سابقاً.

ولكن هل يعد الإحالة بغير جنس الدين تركيب لعقدين في عقدٍ بأن يكون العقد مركبأً من التبديل والحوالة مثلاً أم هو عقدٌ واحد؟

يبدو أنه عقدٌ واحد، لأن العقود عادةً تكون مركبة، وإن كانت في ظاهرها شيء واحد، فبعقد البيع تترتب عدة أمور وفيه عدة مقتضيات وأبعاد مختلفة، وإذا أردنا أن نفكك كل عقدٍ حسب أبعاده لصعبت التعاملات لكثرة العقود في العقد الواحد، ولذلك نرى أن عقداً واحداً يبرم بين اثنين يكون فيه مقتضيات كثيرة.

فأن نقول أن العقد هنا عقدان، عقد للتبديل وآخر للحوالة ليس بدقيق حسبما يبدو، وإن احتمل صحة الرأي الآخر إن اعتبر العرف العقد مركباً من عقدين.

 

مصدر العقود المستحدثة

ما نذكره من أقسام الحوالة المستحدثة إنما هو لكونها أقساماً قائمة في الواقع، ونحن نأتي بها من إلتزام القوانين الحديثة بها.

واعتقد أن القوانين الحديثة لا تلزمنا ولكن بعض القوانين هي مبينة للعرف الموجود، فنلتزم بها إن لم تكن مخالفة للشارع المقدس، فالقانون لا يلزمنا بإعتباره قانوناً وإنما بإعتباره مظهراً للعرف.

وهنا نقول على الفقيه أن يراجع القوانين ليعرف حاجات الظروف التي يعايشها، وما يجري في العالم من حوادث ليكون ملماً بها ويستنبط الحكم الشرعي لها بصورة دقيقة والله المستعان.