الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: شرط الإيجاب والقبول/شرائط الحوالة/كتاب الحوالة

 

"أما المحال عليه فليس من أركان العقد وإن اعتبرنا رضاه مطلقا أو إذا كان بريئا فإن مجرد اشتراط الرضا منه لا يدل على كونه طرفا وركنا للمعاملة ويحتمل أن يقال يعتبر قبوله أيضا فيكون العقد مركبا من الإيجاب والقبولين و على ما ذكروه يشترط فيها ما يشترط في العقود اللازمة من الموالاة بين الإيجاب والقبول ونحوها فلا تصح مع غيبة المحتال أو المحال عليه أو كليهما بأن أوقع الحوالة بالكتابة"[1] .

 

هناك عادة اختلافات كثيرة في كتب المعاملات بين الفقهاء ولكن باب الحوالة لعله يعتبر من الأبواب النادرة التي يكثر الإختلاف فيه، بشكل واسع.

وقسم من تلك الاختلافات راجعة إلى طبيعة البحث العلمي ولكن القسم الأكبر – في رأينا – يعود إلى الاختلاف في المصاديق واختلاف المعاملات حيث أنها ليست طريقة واحدة.

 

الحوالة بين العقد والوفاء

لو كان لشخصٍ ديناً بذمة آخر فقام المديون بإعطاءه صكاً بالمبلغ وأحاله الى البنك (المصرف) فهل يعد ذلك إحالة أم وفاءاً للدين؟

وإن قلنا أنها حوالة فمعنى ذلك أن المحال مخير بين قبول الحوالة أو لا يقبل بها، وإن اعتبرناها وفاءً بالدين فمعنى ذلك عدم امتلاكه للخيار بالرد.

وبمراجعة العرف وسؤاله عن هذا الأمر نجد العرف السائد لا يرى للمحال الحق في ردّ الصك لإنزاله منزلة النقد، كما لا يرى للبنك (المحال عليه) حقاً في عدم الوفاء إن كان الصك قد صدر منه وكان للمحيل رصيدٌ عندهم.

وبذلك نحن نسمي هذا العمل وفاءً بالدين لا حوالة، بالرغم من أن المدين قد أحال دائنه على البنك، ولكن في الوقت ذاته لا يحق للدائن رفض الصك، وبذلك يتبين عدم اعتباره حوالةً، لأنها عقدٌ والعقد يفتقر إلى ايجاب المحيل وقبول المحال، وبعدم قبوله يبطل العقد، بينما فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك، بل هو إلى الإيقاع أشبه منه إلى العقد، لأنه قد وقع من جهة المحيل فحسب دون أن يكون للمحال او المحال عليه الحق في الرفض أو القبول.

ومن هنا؛ نحن نفصل القول في المسألة، فمن الحوالة ما يقع على نحو الإيقاع ومنها ما هو عقد، لاختلاف نوع الحوالة.

 

رضا المحال عليه

قد يحيل المديون دائنه على ثالث (المحال عليه) ولكن للمحال الحق في القبول أو الرضا، إلا أن المحال عليه لا خيار له في الرفض أو القبول كما في مثال البنك، حيث لا حق له بالرفض، ولكن قد يكون رضا المحال عليه هو الآخر شرطاً في تقوّم المعاملة.

فإن لم يكن رضا المحال عليه شرطاً ـ كما لو كان مديوناً ـ فالعقد يتم بين المحيل والمحال ولا محل للمحال عليه، وأما إذا كان للمحال عليه الحق في الرفض والقبول كما لو كانت ذمته خليّة تجاه المحيل[2] ، أو لم يحن وقت الوفاء له بعدُ، أو كان دينه بغير جنس دين المحيل للمحال أو.. ففي مثل هذه الحالات للمحال عليه أن يرفض الأداء ويكون رضا شرطاً في صحة العقد.

وإن كان رضا المحال عليه شرطاً، فيلزم تقوّم العقد من إيجابٍ من المحيل وقبولين من المحال والمحال عليه، وبعدم قبول أحدهما ينتفي العقد.

لعلّ قول السيد اليزدي قدس سره بكون الإحالة أيقاعاً جاء للخلاص من هذه المشكلة، وكثر المخالفون لهذا الرأي، كما اختلفوا في حل المشكلة إلى أقوال:

فمنهم من عد الحوالة عقد بين المحيل والمحال[3] ، دون اعتبار قبول المحال عليه مع اشتراط رضاه، غاية الأمر أن رضاه كرضا الولي في زواج الفتاة.

وبعضٌ اعتبره عقدٌ من إيجاب وقبولين بإنحلال العقد الواحد إلى عقدين[4] .

واعتبره البعض عقدٌ واحد مركب من إيجاب وقبولين مع اشتراط حدوثهما معاً، ولكن تصور هذا الشرط مشكل، خصوصاً إذا علمنا أن معظم عقود الحوالة التي تجري اليوم إنما تجري بين الدوال والمناطق المتباعدة.

نحن نرى أن المسألة واضحة ولا تحتاج إلى هذا الاختلاف، كيف؟

للعقد مفهومٌ عرفيٌ واضح، وهو التزامٌ بالتزام، وكما قال الله سبحانه: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض‌﴾[5] ، أي الرضا المشترك، فإذا كان رضا المحال عليه ركن من أركان الحوالة بمعنى بطلان العقد بفقدانه، وليس كما في مثال رضا ولي الباكر في تزويجها، إذ فقدان الولي – كما في حال موت الأب او الجد أو كفرهما – تنتفي الحاجة إلى رضا شخصٍ آخر، فرضا الأب والجد في النكاح نوع تشريفٍ لهما وهو رضا تبعي، بينما رضا المحال عليه هو الركن في الحوالة، لأن المال إنما يخرج من كيسه، ومحور الحوالة هو المال، فلا يمكن أن نلغي دوره في المعاملة.

ولو فرض عدم رضا المحال عليه وعدم قبوله، فما فائدة الحوالة أصلا حينها؟

ومن هنا؛ لابد من إعتباره طرفاً ثالثاً في العقد، وعلى القول بعدم الاكتفاء برضا المحال عليه والحاجة إلى قبولٍ شرعي من قبله، تترتب بعض الأحكام التي سنبينها لاحقاً.

وفيما يلي نورد كلام السيد اليزدي قدس سره في العروة، حيث قال بعد ذكر إشتراط العلماء الإيجاب والقبول في الحوالة: "أما المحال عليه فليس من أركان العقد وإن اعتبرنا رضاه مطلقا أو إذا كان بريئا فإن مجرد اشتراط الرضا منه لا يدل على كونه طرفا وركنا للمعاملة (وهذا هو الإحتمال الأول) و يحتمل أن يقال يعتبر قبوله أيضا (وهو الاحتمال الثاني باشتراط قبول المحال عليه) فيكون العقد مركبا من الإيجاب والقبولين و على ما ذكروه (من كون الحوالة عقد واحتمال كونها عقد بين ثلاثة أطراف: موجبٌ وقابلين، وعلى هذا:) يشترط فيها ما يشترط في العقود اللازمة من الموالاة بين الإيجاب و القبول ونحوها فلا تصح مع غيبة المحتال أو المحال عليه أو كليهما بأن أوقع الحوالة بالكتابة"[6] .

 

عقد الحوالة بين اللزوم والجواز

هل الحوالة تعد من العقود اللازمة أم الجائزة؟

يبدو أن الكثير ارسل لزوم الحوالة إرسال المسلمات، ولكن ما هو الدليل على ذلك؟

أولاً: لقوله سبحانه ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود[7] ، بتقرب أن الوفاء بالعقود يدل على كونها لازمة إلا ما استثني.

وفيه: كما فصلنا القول في كتاب الفقه الاسلامي المعاملات[8] أن الأمر بالوفاء في الآية لا يدل على اللزوم، إنما يدل على ضرورة الوفاء بالعقد، فقد يكون العقد لازماً والوفاء به لازماً وقد يكون جائزاً والوفاء به جائز، فالوفاء في كل عقدٍ بحسبه، ومن هنا لا تدل الآية على ضرورة اللزوم، بل تدل على ضرورة الوفاء بمقتضى العقد.

ثانياً: الإجماع، وفيه عدم ثوبته.

أضف إلى ذلك، أن بناء الفقهاء في المعاملات ـ وهو مقتضى النصوص أيضاً ـ بأن العقود تابعةٌ للقصود، فإرادة الأطراف هي الأساس في المعاملة، وإن كان للشارع رأي في العقد فلابد من التصريح به، ولذا فصلوا بين الحوالة اللازمة والجائزة، ومثاله ما لو خير المحيل المحال بين الصبر على الوفاء او الإحالة على المحال عليه، ففي هذه الحالة العقد جائز.

 

اشتراط الموالاة بين الإيجاب والقبول

ذكر السيد قدس سره أن المشهور اشتراط الموالاة بين الإيجاب والقبول وهو محل تأمل، إذ لا إطلاق في إشتراط الموالاة بين الإيجاب والقبول، فلو أنشأ المحيل الإيجاب واستمهله المحال للاستفسار عن حال المحال عليه قبل القبول فلا بأس، إن لم يتراجع الموجب، وأكثر من ذلك ما لو كان الإيجاب والقبول بالمكاتبة والرسالة التي تحتاج إلى فترة، فلا دليل على البطلان.

قال السيد اليزدي قدس سره: "يشترط فيها ما يشترط في العقود اللازمة من الموالاة بين الإيجاب و القبول و نحوها فلا تصح مع غيبة المحتال أو المحال عليه أو كليهما بأن أوقع الحوالة بالكتابة"[9] .

إلا أن الكثير من الفقهاء صححوا العقود الناشئة بالكتابة إن كانت مورثة للإطمئنان، كما لو عرف المتبايعان خط الآخر أو توقيعه، والعالم اليوم قائم على التعاملات المكتوبة أكثر من إعتماده على التعاملات الشفهية، خصوصاً في المعاملات الكبيرة والتعاملات بين الدول، حيث يعتمدون المكاتبات وحتى التوقيعات الالكترونية.

ومن أجل التخلص من كل هذه الإيرادات ذهب إلى إعتبار الحوالة إيقاعاً، حيث قال: "و لكن الذي يقوى عندي كونها من الإيقاع"[10] .

فبدل أن نقول أنها عقد وتفتقر إلى إيجاب وقبول أو إيجاب وقبولين فلنعتبرها إيقاعاً، فالسبب في اعتبارها إيقاعاً هو أن أصلها الوفاء بالدين، وهو يحصل بإيقاعٍ من طرف المديون، والفرق الوحيد بينهما هو إفتقار الحوالة إلى رضا المحال والمحال عليه، وهذا لا يحول الإيقاع إلى عقد.

ولكن هناك فرقٌ أساس بينهما في أن الحوالة تسبب نقل الذمة من شخصٍ إلى آخر دون الوفاء، ولكن السيد يجيب على هذا الدخل بقوله : "و إن كانت توجب انتقال الدين من ذمته إلى ذمة المحال عليه فهذا النقل و الانتقال نوع من الوفاء و هو لا يكون عقدا و إن احتاج إلى الرضا من الآخر"[11] .

فالسيد قدس سره إعتبر انتقال الذمة جزءاً من الوفاء ولم يعتبره أمراً خارجاً عنه، وبالتالي لا يحولها ذلك إلى عقد، ويضرب السيد بذلك مثلاً برضا الدائن إذا أراد المديون الوفاء بغير جنس الدين كما لو كان الدين بعملة وأراد إيفاءها بأخرى، حيث قال: "كما في الوفاء بغير الجنس فإنه يعتبر فيه رضا الدائن و مع ذلك إيقاع و من ذلك يظهر أن الضمان أيضا من الإيقاع فإنه نوع من الوفاء و على هذا فلا يعتبر فيها شي‌ء مما‌ يعتبر في العقود اللازمة و يتحققان بالكتابة و نحوه.."[12] .

وكلام السيد قدس سره متينٌ ولكن ليس في كل حوالة، إذ هو يشمل بعض مصاديقها – كما مرّ سابقاً – وليس جميعها.

و أما السبيل إلى التفصي من كثير مما ورد من شروط في العقود اللازمة، كتوافق الإيجاب والقبول وتواليه و.. فلا يكون بإخراج الحوالة من كونها عقداً إلى الإيقاع، بل يكون في عدم اعتبار الشروط مطلقة في كل العقود، إذ لا دليل على أعتبارها في كل العقود اللازمة، فوجوب الوفاء في الآية الذي يعد الدليل الأقوى لمثل هذه الشروط، يشكل في دلالته على الاشتراط مطلقاً والله العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي، ج5، ص447.
[2] من أمثلته: خلو الرصيد البنكي للمحيل من المال عند المحال عليه (البنك)، أو عدم اشتغال ذمة المحال عليه بدينٍ أو شبهه للمحيل.
[3] انظر العروة الوثقى (المحشى)، ج5، ص453. [المقرر]
[4] وهو قول المحقق النائيني قدس سره، كما مال إليه السيد عبد الاعلى السبزواري قدس سره في المهذب، ج20، ص304. [المقرر]
[5] النساء/السورة4، الآية29.
[6] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص447.
[7] المائدة/السورة5، الآية1.
[8] جاء في كتاب الفقه الاسلامي فقه المعاملات – الاصول العامة : ج1، ص256 : " إن كل عقد له وفاء خاص، فلا يعني وفاء الاجارة إعطاء العين إلى الأجير، كما أن وفاء البيع لا ينافي وجود خيار لطرف أو للطرفين، إذ إن الخضوع لمقتضى الخيار نوع من الوفاء، من هنا فخطأٌ إعتراض بعضهم على الآية بأنها لا تشمل العقود الجائزة، لأن في استطاعة الأطراف أن يفسخوها، ومن حقنا أن نسأل : كيف تشمل الآية العقود اللازمة وأكثرها يقبل الإقالة؟...".
[9] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص447.
[10] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص447.
[11] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص448.
[12] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص449.