الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: النزاع في الضمان/كتاب الضمان

 

بالرغم من أن مسائل الإختلاف والنزاع تعود كلياً إلى باب القضاء إلا أن خصوصية بعض الموارد في أبواب الفقه جعلت الفقهاء يتحدثون عن هذه المسائل في ختام حديثهم عن باقي أحكام الباب، ومن جملة تلك المسائل هي مسألة إنكار الضامن للضمان وقيام البينة عليه بالضمان.

فلو أنكر الضامن الضمان ثم ثبت عليه ذلك بالبينة، وبالتالي أخذ منه المال فهل له أن يرجع في المال المدفوع إلى المضمون عنه، بإعتباره دفع المال بدلاً عنه أم لا؟

قال الفقهاء لا يستطيع لأن الضامن ينكر الضمان وبإنكاره للضمان ينكر – بالملازمة – حقه بالرجوع إلى المضمون عنه، بإعتبار أن رجوع الضامن إلى المضمون عنه إنما يكون في حال وجود إذن من المضمون عنه بالضمان، ومع إنكاره للضمان أنكر كل شيء، فكيف يرجع إليه؟

فالضامن يعتقد هنا أن المال المأخوذ منه ليس مالاً شرعياً وإنما قد أخذ منه ظلماً، ولو كانت هناك عدالة ــ في رأيه ــ لاسترجع المال من المضمون له، وهذا لا ريب فيه، ولكن السؤال هو عن المضمون له، هل يحق له أن يأخذ هذا المال كوفاء لدينه للمضمون عنه أم لا؟

بالطبع يمكنه ذلك إن اعتقد ضامنية الضامن فعلاً بعد ثبوتها عليه بالبينة، وإلا فلا يأخذ، بمعنى أنه إن اعتقد بكونه صاحب المال وأن المشهود عليه هو الضامن حقاً فيأخذ المال.

والسؤال الآخر في المقام عن المضمون عنه، كيف يسكت عن وفاء أجنبي لدينه؟ قيل إن كان مطمئناً بكون الضامن ضامن فعلي له يكفي، وهل كان ضمان الضامن هنا تبرعي ومن دون إذن؟ وبعبارة أخرى، كيف تخلص المضمون عنه من الدين الذي تعلق بذمته؟ وهل كان الضامن متبرعاً، أم أن ما اخذ من الضامن قهراً مقدمة لرجوع الضامن عليه، فكيف نحلل هذا المال، ونهاية المطاف أن ما أخذ منه قهراً أخذ لكونه ضماناً والذي يعني رجوعه على المضومن عنه شخص ليس له مصلحة في المعاملة، حيث كانت بين المضمون له والمضمون عنه، في هذه الحالة أثبتنا على شخصٍ خارجي الضمان وقام بالوفاء، فهنا كيف يمكن حل الموضوع؟

وبمراجعتی عن الموضوع الذي بحثناه سابقاً عن الإثراء بلا سبب أو ما أسميناه بـ (لا ضرر) وجدت أن القليل من فقهائنا ذهبوا إلى أن (لا ضرر) تعني جبر الضرر أيضاً، في حين لم يفهم كبار الفقهاء كالشيخ الأعظم والمحقق النائيني والآخوند وغيرهم، من هذه القاعدة سوى النهي عن الضرر، دون أن تدل القاعدة على ضرورة جبرانه.

بينما صاحب العناوين يفصل هذه المسألة تفصيلاً في كتابه[1] وكذا غيره من الفقهاء أن قاعدة لا ضرر كما تنفي الضرر، تدل على وجوب جبر الضرر الحادث، فإذا تضرر أحدٌ وكان ضرره لمصلحة آخر فلابد أن يجبر ضرر المتضرر، لكي يرتفع الضرر المنهي.

ولذا نرى أن (لا ضرر) يجبر الضرر وبينا ذلك في كتابنا الفقه الإسلامي، فلا ضرر يعني نفيه ابتداءاً واستدامةً، بمعنى لو احدثت ما يوجب الضرر فعليك جبرانه وتداركه، كما لو حفر أحدهم حفرةً تضر بالمسلمين، فلازم كلام المشرع له (لا ضرر) هو أن يردمها بعد حفره لها.

فنحن نفهم من كلمة (لا ضرر) أن المكلف ما دام قام بالإضرار بالغير فعليه أن يجبره، وهذا الفهم لا يشترك فيه جميع الفقهاء، إذ لا يفهم بعضهم من القاعدة ضرورة جبران الضرر.

وعليه فإن المضمون عنه انتفع بسقوط الدين عليه ولكن بالإضرار بالضامن (الذي ثبت عليه الضمان بالبينة)، وهنا يجب على المضمون عنه أن يرفع الضرر عنه، هذا بخلاف ما عليه المشهرو حيث قالوا ببراءة المضمون عنه في المقام وهو مبني على فهمهم من القاعدة المذكورة.

ويبدو أن صاحب العروة قدس سره، في نفس الوقت الذي يفتي بعدم رجوع الضامن (المنكر للضمان والثابت عليه بالبينة) على المضمون عنه، يستدرك القول بشكل آخر، حيث قال قدس سره: "نعم لو كان مدعياً مع ذلك للإذن في الأداء بلا ضمان ولم يكن منكرا لأصل الدين وفرض كون المضمون عنه أيضا معترفا بالدين والإذن في الضمان جاز له الرجوع‌ عليه"[2] .

فلو أقرّ المضمون عنه بمدعى الضامن بكونه مأذوناً من قبله – حتى لو لم يكن ضماناً - أو أقر بثبوت الدين عليه، ففي هذه الحالة يرجع الضامن عليه، كما لو قال الضامن للمضمون عنه أنت أذنت لي بالوفاء لا على نحو الضمان، فصدقه المضمون عنه ولكن ادعى أنه إذن بالتبرع فأنكر الضامن، فله أن يرجع إليه، لأن الإذن يعني انه يستتبع الوفاء من قبل المضمون عنه، ومن هنا قال السيد اليزدي قدس سره: "إذ لا منافاة بين إنكار الضمان و ادعاء الإذن في الأداء فاستحقاقه الرجوع معلوم (بإعتبار أنه أذن له بأن يدفع عنه لكن الإختلاف في كون الأمر من باب الضمان أو لا)[3] غاية الأمر أنه يقول إن ذلك للإذن في الأداء و المضمون عنه يقول إنه للإذن في الضمان"[4] .

اما البينة التي شهدت على الضامن بالضمان، إن كانا في المجلس ولم يدريا ما لو كان ما جرى إذناً في الاداء أم ضماناً مع علمهم بأن الضامن عليه أن يدفع المال، لكن هل ذلك بصفته ضامناً أو مأذوناً، فهل يجوز لهما أن يشهدا على كونه ضماناً أو إذناً في الأداء؟ مع وجود الفارق بين الصورتين، ففي حال كونه إذناً لا يجبر على الدفع بينما يجبر على الدفع إن كان ضمانا، وإن شهدا على كونه ضماناً وهو مجرد إذن بالدفع فقد اجترحا خطئاً، لأن المأذون بالأداء عليه لا يجب عليه الدفع بينما الضامن يجب عليه الدفع.

قال السيد قدس سره: "و هل يجوز للشاهدين على الإذن في الضمان حينئذ أن يشهد بالإذن من غير بيان كونه الإذن في الضمان أو كونه الإذن في الأداء الظاهر ذلك و إن كان لا يخلو عن إشكال"[5] .

ثم يخرج السيد قدس سره عن إطار الموضوع بإيراد مطلب آخر هو نظير للمسألة السابقة، حيث يقول السيد بوجوب كون الشهادة تفصيلية في كل جوانبها، فمجرد إدعاءٍ لا يفيد للشهادة، لقوله صلى الله عليه وآله: "على مثل هذا فاشهد أو دع"[6] حيث أشار صلى الله عليه وآله إلى الشمس[7] ، ومن جملة ذلك فيما إذا شهدا على زيد بكونه يطلب بكراً فعليهما أن يذكرا سبب الطلب هل هو بسبب البيع او الدين أو بدل الإجارة او..

فأحكام كل واحدٍ منها يختلف عن الآخر، فإن كان لبيعٍ وقع بينهما فلابد من وجود المبيع، وإن كان بدل إجارة فلابد من بيان المؤجر او العمل المؤجر لأجله وهكذا..

ومن هنا يتسائل السيد قدس سره عن جواز الشهادة بالكلي الجامع للحالات كلها مع السكوت عن السبب التفصيلي، قال قدس سره: "وكذا في نظائره كما إذا ادعى شخص على آخر أنه يطلب قرضا و بينته تشهد بأنه يطلبه من باب ثمن المبيع لا القرض فيجوز لهما أن يشهدا بأصل الطلب من غير بيان أنه للقرض أو لثمن المبيع على إشكال‌"[8] .

يذهب قدس سره بجواز الشهادة المطلقة على إشكال، فإن كنت لا تعرف الدين بكونه ثمن بيع أو ثمن دية أو مهر أو.. فهناك إشكالٌ بالإطلاق في الشهادة، لإحتمالية جرّ الجور على من أقيمت عليه البينة، كما هو الحال فيما نحن فيه، كما لو كان مأذوناً بالأداء وشهدا عليه بأنه ضامن فيجبراه على الدفع بينما لم يكن لهما إجباره على الدفع، والله العالم.

 


[1] انظر: العناوين الفقهية، الحسيني المراغي، ج1، ص317.
[2] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص438.
[3] التوضيح من السيد المرجع الأستاذ قدس سره.
[4] التوضيح من السيد المرجع الأستاذ قدس سره.
[5] التوضيح من السيد المرجع الأستاذ قدس سره.
[6] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : ج5، ص199.
[7] الفصول المهمة في أصول الأئمة، الشيخ حر العاملي (تكملة الوسائل) : ج2، ص506.
[8] الفصول المهمة في أصول الأئمة، الشيخ حر العاملي (تكملة الوسائل)، 2، ص506.