الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ضمان النفس، ضمان المتاع/كتاب الضمان

 

"لو قال عند خوف غرق السفينة ألق متاعك في البحر و على ضمانه صح بلا خلاف بينهم‌ بل الظاهر الإجماع عليه و هو الدليل عندهم و أما إذا لم يكن لخوف الغرق بل لمصلحة أخرى من خفة السفينة أو نحوها فلا يصح عندهم و مقتضى العمومات صحته أيضا‌"[1] .

 

هناك مسائل ملحقة بأحكام الضامن منها ما يتصل بضمان المشتري لما يحدثه فيما اشتراه من تغييرات، فإذا كانت العين التي شراها مستحقة فالضامن يضمن درك التغييرات التي أحدثها المشتري في العين، فلو فرض العين أرضاً وكرى فيها المشتري نهراً وبنى بناءاً وغرس فيها، ثم تبين كونها مستحقة لغير البائع، فمن يتحمل ما صرف عليها من جهة وإرجاعها إلى ما كانت عليه – فيما لو طلب المالك ذلك – من جهة أخرى؟

ضمان ذلك كله يكون على الضامن إن ضمن، كما لو قال أنا ضامن درك ثمن ما تصرفه على الإرض إن بانت مستحقة، وهذا جائز لأنه عقدٌ من العقود، وذكرنا في البحث السابق أن مثل هذا أكثر ما يقع في عقد الإجارة لا البيوع، وذلك لأن المستأجر يقوم بإحداث تغييرات فيه.

 

تسلسل الضامنين

ومن المسائل التي يطرحها السيد اليزدي قدس سره هي فيما يرتبط بجواز تسلسل الضامنين، وذلك بأن يضمن أحدهم شخصاً فيضمن الضامن ثالث وهكذا، فهل يجوز ذلك؟

بلى؛ يجوز ذلك[2] ، وهذا ما يقوم به اليوم البنوك وشركات التأمين، حيث يضمن البنك بنكاً آخر، أو تقوم شركة التأمين بالتأمين عند شركة خرى وهكذا.. وهذا يجوز.

 

ضمان النفس

هل يجوز ضمان الإنسان نفسه، فيكون ضامناً من جهة ومضموناً عنه من جهة أخرى، كما لو اشترى أحدهم بيتاً وطالبه البائع بالضامن فقال أنا أضمن نفسي، فهل يصح هذا الضمان؟

قالوا : كيف يمكن أن يقوم المرء بضمان نفسه؟

واجيب عنه، أن الحق في بعض الأحيان ــ أي حق ــ قد يتحقق بسببٍ واحد، وقد يكون لحق واحد سببان، فمثلاً قد يحترم الرجل أخاه للأخوة ولحق الأستاذ ولحق العلم، فهو يحترم شخصاً واحداً ولكن لأسباب مختلفة، أو كما لو كان للمشتري عدة خيارات بالنسبة لبيع واحد كما لو اجتمعت خيارات المجلس والشرط والحيوان له، حيث تزاحمت في موضوع واحد.

وكذلك يمكن أن يكون الإنسان مطالباً بدفع المال مرة بجهة كونه مشترياً ومرة بجهة كونه ضامناً، ولكن في الحقيقة تصور هذا الأمر صعب، فما هي الفائدة في ذلك؟

ولكن إذا اعتقدنا بصحة أية معاملة عقلائية وعرفية لم ينه عنها الشارع، فنقول بصحة هذا الضمان أيضاً، حتى لو لم نعرف السبب أو الفائدة وراء ضمان الإنسان نفسه، فلربما يصدر ذلك من صاحب وجاهة ومقام يريد التأكيد على صدقه، ولنضرب مثلاً تاريخياً حدث فيه شبيه ذلك[3] ، فقد روي أن الإمام زين العابدين استقرض مالاً من أحد مواليه، فقد كانت من عادة الإمام أن يربي العبيد على الإيمان والعقيدة و.. ثم يعتقهم في سبيل الله وربما يعطيهم مالاً للإتجار، فيحيي بها نفوسهم ويكونوا بذلك مواليه، فقد روي أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ‌ زَيْنُ الْعَابِدِينَ مِنْ مَوْلًى لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَطَلَبَ الرَّجُلُ وَثِيقَةً قَالَ فَنَتَفَ لَهُ مِنْ رِدَائِهِ هُدْبَةً فَقَالَ هَذِهِ الْوَثِيقَةُ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَ عليه السلام أَنَا أَوْلَى بِالْوَفَاءِ أَمْ حَاجِبٌ فَقَالَ أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ قَالَ: فَكَيْفَ صَارَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ يَرْهَنُ قَوْساً وَ إِنَّمَا هِيَ خَشَبَةٌ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ حَمَالَةً وَ هُوَ كَافِرٌ فَيَفِي وَ أَنَا لَا أَفِي بِهُدْبَةِ رِدَاءٍ قَالَ فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ مِنْهُ وَ أَعْطَاهُ الدَّرَاهِمَ وَ جَعَلَ الْهُدْبَةَ فِي حُقٍّ فَسَهَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَهُ الْمَالَ فَحَمَلَهُ إِلَى الرَّجُلِ ثُمَّ قَالَ خُذْ قَدْ أَحْضَرْتُ لَكَ مَالَكَ فَهَاتِ وَثِيقَتِي فَقَالَ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ ضَيَّعْتُهَا قَالَ إِذاً لَا تَأْخُذُ مَالَكَ مِنِّي مِثْلِي يُسْتَخَفُّ بِذِمَّتِهِ قَالَ فَأَخْرَجَ الرَّجُلُ الْحُقَّ فَإِذَا فِيهِ الْهُدْبَةُ فَأَعْطَاهَا عَلِيَ‌ بْنَ‌ الْحُسَيْنِ‌ وَ أَعْطَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام الدَّرَاهِمَ وَ أَخَذَ الْهُدْبَةَ[4] .

فالإمام عليه السلام عاتب الرجل لإستهانته بمقام الإمام سلام الله عليه، فمثله لا يستخف بذمته.

ضمان المتاع

ومن المسائل التي قد تكون ابتلائية، ولا بأس ببيانها هي فيما لو ضمن أحدهم متاع من معه في السفينة لخوفه على غرق السفينة، فطلب منهم أن يرموا بها في البحر لتخفيف الوزن وإنقاذ أنفسهم وهو ضامن لقيمتها لهم، فهل يجوز ذلك؟

قال الفقهاء بالجواز واستندوا في ذلك على الإجماع، ولكن ماذا لو لم يكن هناك حالة الخوف والخطر فهل يجوز الضمان أيضاً؟

كما لو كان التاجر ــ مثلاً ــ على عجلة من أمره وأراد سرعة الوصول فطلب من الركاب بإلقاء أمتعتهم ضامناً إياها لهم، فهل يجوز مثل هذا الضمان؟

قال المجوزون في المسألة الأولى بعدم الجواز هنا، ولنا أن نتسائل عن الفرق بين حالتي الخوف وعدمه، فبالتالي الرجل ضمن المتاع، وضامن لما يخسره الركاب، فلا فرق بين إنقاذ السفينة من الخطر أو إيصالها إلى الميناء بسرعة.

يقول صاحب العروة بجواز الضمان في الحالتين، لا للإجماع وإن كان حجةً، ولكن من جهة كونها معاملة عرفية جائزة.

وفي تصوري أن هذه المعاملة شبيهة بالجعالة، أوَليس محتوى الجعالة هي أن يقوم شخص بعمل يصب في منفعة الجاعل في مقابل المال المجعول، كما لو قال الجاعل من وجد ضالتي فله كذا؟

أو كأن يقول الجاعل: من وجد في هذه الأرض طريقاً إلى الماء فأنا أعطيه كذا من المال، أو يقول: من وصل إلى هذه القمة أنا أعطيه جائزة معينة، سواء كان هدفه من جعله للمال في مقابل هذه الأمور للوصول إلى المنفعة الشخصية أو كشف الطرق إلى القمة، أو التشجيع على الرياضة أو يريد التفاخر بين الناس ويحصل على عنوان و.. يمكن كل ذلك، ويجوز ذلك إذا كان هناك غرض عقلائي فيقضيها بهذه الطريقة.

نحن لا نشكل على مثل هذه المعاملات غير السفهية، فهذه الجعالة منها، فالعقود العقلائية ماضية، كما لو رأى أحدٌ شخصاً يلبس ثياباً لا تليق بمقامه، فأخذها منه وأعطاه ثياباً جيدة دون أن ينتفع بهذه القديمة، أو قال له إرمِ بها وأنا اعطيك مكانها أخرى وهذا يجوز.

فالإطار العام هو الجعالة، والجعالة أعم من الأمثلة المذكورة في النصوص، لأن الأمثلة قد تحدد أذهاننا في بعض الأحيان مثل قصة النبي يوسف عليه السلام وضياع السواع، أو الأمثلة في الحرب او.. في حين أن الجزئي ليس كاسباً ولا مكتسباً، فالجعالة أعم من هذه الأمثلة، وقد يكون ما نحن فيه داخلاً فيه أو قد يكون داخلاً في الضمان، فكلمة أنا ضامن قد لا يقولها الضامن هنا، كما يقول : "من رمى متاعه فأنا أعطيه مقابل كل كيلو مقداراً من المال" دون أن يستعمل كلمة الضمان.

فالتداخل الحاصل بين أحكام الضمان والجعالة إنما هو بسبب إيراد كلمة (أنا ضامن) بينما هي في الواقع كلمة لا تبدل الواقع، كما مرّ في إيراد كلمة (الزعيم) التي تفيد الضمان في الجعالة.

قال السيد اليزدي قدس سره في المسألة الثانية والأربعين : "لو قال عند خوف غرق السفينة ألق متاعك في البحر و على ضمانه صح بلا خلاف بينهم‌ بل الظاهر الإجماع عليه و هو الدليل عندهم و أما إذا لم يكن لخوف الغرق بل لمصلحة أخرى من خفة السفينة أو نحوها فلا يصح عندهم (لعدم قيام الإجماع بالجواز)[5] و مقتضى العمومات صحته أيضا‌"[6] .

وكأن الإجماع قام على جواز الضمان في حالة الخوف لأنه من جعالة وليس من الضمان، أو لأنه ضمان عقلائي كان كثير الحدوث في زمانهم فتعرضوا له وقالوا بجوازه، والله العالم.

التتمة

وفي نهاية البحث يورد تتمةً، وليته كان يأتي بها في أول الباب، حيث قال قدس سره : "قد علم من تضاعيف المسائل المتقدمة الاتفاقية أو الخلافية أن ما ذكروه في أول الفصل من تعريف الضمان و أنه نقل الحق الثابت من ذمة إلى أخرى و أنه لا يصح في غير الدين و لا في غير الثابت حين الضمان لا وجه له وأنه أعم من ذلك حسب ما فصل‌"[7] .

وقد قلنا في تضاعيف الحديث أن صاحب العروة ــ وبحسب استقرائنا ــ يعد مبتكر هذا الشيء والرأي، وكم ترك الأول للآخر كما قيل، حيث ابتكر القول بأن الضمان يجوز مطلقاً إن كان عرفياً ولا فرق بين ضمان الدين والعين وبين ضمان الثابت في الذمة وغير الثابت (ما لم يجب) وكذلك لا فرق بين الضمان حال وجود الخوف أو المصلحة، وكلامه قدس سره في التتمة متين، ولكن لنا هنا كلاماً يرتبط بالمقام:

 

ضرورة العمل لإندكاك الفقه الإستدلالي

السياق التاريخي لنشأة الفقه كان بسبب الحاجة، حيث كانت المسائل المتناثرة حسب ابتلاءات المكلفين، كالطهارة والصلاة والصوم و.. وجمع الفقهاء شتات تلك المسائل شيئاً فشيئاً في أبوابٍ (أربعة وعشرين باباً أو أكثر)، وقسمّوا الفقه إلى قسمي العبادات والمعاملات والأخير إلى قسمين.

وانتشر هذا الأسلوب في الكتابة الفقهية، ثم جاء بعد ذلك جيل من الفقهاء بدأ بالإستدلال على هذه الأحكام، ففي باب الطهارة مثلاً يبحث مثبتات الطهارة أو النجاسة (كالعلم واليد والشاهدين و..)[8] ويبحثون الدليل عن الإثبات وكيف يثبت الشيء بالبينة أو الخبر الواحد أو الإستصحاب أو.. ويبينوا ذلك مفصلاً، وفي باب الصلاة في الإستدلال على طرق إثبات القبلة، يبحثون ذات البحوث مجدداً بأدلتها التفصيلة، وفي الصوم تعاد المسائل في إثبات الهلال.

ومن هنا يجد الباحث في فقهنا الكثير من التكرار لنفس المباحث، بإعتبار هذه البحوث عملية وكتب الفقه في البداية صب على أساس عملي وعلى أساس المسائل الشرعية التي هي حاجة الناس، ومن ثم جاء الاستدلال على كل مسألة مسألة، وطبيعي أن الأدلة في بعض المسائل مشتركة، فقاموا بإيرادها مكرراً، كما نجد في بحث الدعاواى مثلاً، تتكرر أدلتها في كل بحث يورد فيه مسائل الخلاف والنزاع ( كما يفعل المحقق الحلي قدس سره في آخر كل باب من المعاملات)، في حين أن الأدلة إوردت مفصلاً في باب القضاء بصورة مستقلة، بينما نجدها تكرر مع كل باب.

نحن نرى أن من الأفضل هو يورد في بداية كل باب من أبواب الفقه بيان الأصول والمباني العامة للباب، ومن ثم يكون الحديث عن التفاصيل الفرعية.

وهذا ما نحتاجه أن يكون بين فقهائنا في المستقبل، بأن يعملوا على إندكاك مسائل الفقه ببعضها البعض في الجانب الإستدلالي دون الفقهي، فكما نحن بحاجة إلى أصول الفقه نحتاج أيضاً إلى أصول أحكام الفقه، أي الأصول المرتبطة بأحكام الأبواب الفقهية، وليس هذا جديداً على الفقهاء، فالشيخ الأنصاري – بحسب تصوري – سار على هذا الأسلوب في كتابه المكاسب ووفّق في ذلك ولكنه أقتصر عمله على هذا الكتاب دون سائر الكتب الفقهية.

نسأل الله سبحانه أن يوفق الجميع لهذه المهمة كي يسهل على طالب البحث مراجعة أصول كل باب من الأبواب الفقهية ليكون له رأيه المناسب فيه.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.


[1] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، ج5، ص435.
[2] . قد مرّ تفصيل الحديث عن هذه المسألة والمسألة اللاحقة في أبحاث سابقة. [المقرر].
[3] وإن كان المثال التاريخي يرتبط بالرهن، ولكنه يناسب المقام في بيان مقام المتعاقد [ المقرر].
[4] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص274.
[5] توضيح الأستاذ.
[6] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، ج5، ص435.
[7] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، ج5، ص436.
[8] بين الهلالين للمقرر.