الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ضمان الأعيان الغير مضمونة /كتاب الضمان

 

"و أما ضمان الأعيان الغير المضمونة كمال المضاربة و الرهن و الوديعة قبل تحقق سبب ضمانها من تعد أو تفريط فلا خلاف بينهم في عدم صحته و الأقوى بمقتضى العمومات صحته أيضا‌"[1]

 

سبق وأن قلنا بوجود أقوال مختلفة حول صحة ضمان العين المضمونة، حيث ذهب أغلب الفقهاء بعدم إمكان ضمان العين المضمونة كالعين المغصوبة أو المأخوذة بالعقد الفاسد وذلك للأسباب التالية:

أولاً: الضمان يتجه إلى الذمم لا الأعيان، فلا يمكن الضمان.

ثانياً: الضمان عبارة عن تفريغ ذمة بإشغال أخرى مكانها، بينما في هذه المسألة للمالك أن يرجع إلى الغاصب كما يجوز له الرجوع إلى الضامن – على القول بصحة الضمان – وهذا يعني ضم ذمة إلى أخرى، وهو لا يتناسب مع مبنى الإمامية في الضمان.

ثالثاً: إن هذا الضمان هو من ضمان ما لم يجب أو ضمان ما لم يلزم ويتحقق، والذي لا يصح عند الكثير من الفقهاء.

إلا أن العلامة الطباطبائي في هذه المسألة – كما في كثير من مسائل نهاية هذا الباب – خالف المشهور وأفتى بشجاعة بجواز الضمان، كما أجاز هنا ضمان العين المغصوبة أو أي عين مضمونة أخرى كالعارية المضمونة والهبة المعوضة وغيرهما، وأعتمد في الجواز على أمور ثلاث:

الأول: كون الضمان عقد عرفي، وبإستنطاق العرف يمكننا أن نبلور الرؤية حول ماهيته وحدوده.

الثاني: أن هذا النوع من الضمان متعارف عند الناس وإن لم يسمى ضماناً فهو داخل في عموم قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود[2] .

الثالث: بالرغم من أن الأصل في الضمان إنتقال ذمة إلى أخرى، إلا أنه لم يدل دليل على اشتراط كون الضمان بهذا النحو، فلا إشكال في ضم ذمة إلى أخرى في الضمان كما في حال إشتراط ذلك.

ضمان الأعيان الغير مضمونة

أما عن الأعيان غير المضمونة كمال المضاربة والوديعة وغيرهما فيقول السيد اليزدي قدس سره: "وأما ضمان الأعيان الغير المضمونة كمال المضاربة والرهن والوديعة قبل تحقق سبب ضمانها من تعد أو تفريط فلا خلاف بينهم في عدم صحته والأقوى بمقتضى العمومات صحته أيضا‌"[3] .

فمال المضاربة والوديعة والرهن، أعيانٌ ليست مضمونة إلا بتعدي أو تفريط، فالمستودع مثلاً بريء حتى تثبت إدانته بثبوت تفريطه فيكون ضامناً. فهل يجوز الضمان فيها أيضاً؟

يذهب السيد الطباطبائي قدس سره إلى الجواز، ودليله على ذلك أنه عقدٌ عرفي داخل في عمومات الصحة، وتكرار العلامة الاستدلال بهذا الأمر وتأكيده عليه بين الفينة والأخرى، هو لأن أهم الأدلة التي ساقها القائلون بعدم الجواز هو الادعاء بأنه ليس من الضمان المعهود والمصطلح، والسيد يقول فليكن كذلك، فما دمنا نجد العرف يعمل به، وإن لم نسمه ضماناً فلماذا لا يجوز؟ فهل هناك دليل يدل على عدم الجواز، في مقابل عمومات الصحة؟

ولكن الحق أن هذا هو من الضمان، وإن لم يعهده بعض الفقهاء.

ومثله ضمان الوديعة ومال المضاربة، ومثال ضمان مال المضاربة لو أراد صاحب المال من العامل إسيتثاقاً على ماله ــ أي على عدم تعديه على المال ــ فحينها يبحث العامل على من يضمنه عند صاحب المال، وهذا ما تقوم به البنوك[4] .

والإقتصاد العالمي اليوم كله يسير في هذا الإتجاه، حيث يقوم صاحب المال بالبحث عمن يضمن له ماله لضمان عدم التعدي من قبل العامل.

 

عقد التأمين

ومما لم يذكره العلامة، وذكره غيره من الفقهاء مثل المرجع الراحل السيد محسن الحكيم قدس سره الذي بحثه في هذا السياق، هو بحث عمل شركات التأمين.

والضمان هو عمل شركات التأمين وإن اختلف الإسم، فالجوهر واحد وإن تعددت الأسماء كالزعيم أو الضامن أو التأمين، لأن المؤدى واحد، ويذهب السيد الحكيم بناءاً على عدم جواز ضمان الأعيان الغير مضمونة وإشتراط كون المضمون ديناً لا عيناً، إلى عدم جواز عقد التأمين، فليست هناك ديونٌ مضمونة أو حق واجب ليضمن، بل الحق لم يجب ولم يلزم بعدُ.

وفي المقابل يقول المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه الفقه بصحة عمل شركات التأمين، مادامت تقوم بعمل عرفي لم ينه عنه الشرع، وإن لم نسمه ضماناً فهو عمل صحيح، سواء كان التأمين على النفس أو البيت أو السيارة أو أي شيء آخر، كما يقوم العسكري بتأمين نفسه في مقابل قسم من مرتبه، وتتعهد الشركة في المقابل أن تقوم بتكفل مصاريف عائلته إن أصيب في المعركة أو مات[5] .

وحسبما أتذكر فإن السيد المرجع السبزواري قدس سره صحح عمل شركات التأمين أيضاً [6] .

ومن هنا يجوز هذا النوع من الضمان، إما إعتماداً على كونه ضماناً وأن الزعيم غارم، وإما تمسكاً بعمومات صحة العقود العرفية وإن كانت جديدة لدخولها في عموم ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُود[7] .

 

ضمان درك الثمن

وفي المسألة التاسعة والثلاثين يقول السيد اليزدي قدس سره: "يجوز عندهم بلا خلاف بينهم ضمان درك الثمن للمشتري‌ إذا ظهر كون المبيع مستحقا للغير أو ظهر بطلان البيع لفقد شرط من شروط صحته إذا كان ذلك بعد قبض الثمن كما قيد به الأكثر أو مطلقا كما أطلق آخر و هو الأقوى"[8] .

أجازوا ضمان درك الثمن يعني ضمان ما لو كان الثمن فاسداً أو معيوباً أو ما أشبه، كأن يضمن شخص عدم كون العملة مزورة ويضمن إعطاء قيمتها فيما لو بانت كذلك، فالدرك من التدارك وقد يتجه إلى الثمن أو إلى العقد ذاته كما لو ظهر بطلان البيع بسبب فقده لبعض شروط الصحة، كبيع الصرف الذي خلي من التقابض في المجلس (وهو من شروط الصحة)، ففي حال الضمان لابد للضامن أن يدفع الضرر الذي يلحق بأحد الأطراف أو كليهما.

ويكون ذلك على صورتين:

فقد يكون البيع قد تحقق وتقابض الطرفان، ويكون أحد الطرفين ملزماً بأن يدفع للثاني العوض فيضمنه، وقال أغلب الفقهاء بجواز الضمان في هذه الحالة.

وقد يكون في حالة عدم تحقق البيع والتقابض، وأجاز ذلك بعض الفقهاء.

فمن أجاز منهم ذلك مطلقاً بنى ذلك على جواز ضمان ما لم يجب، أما الذي قيد الإجازة بالتقابض انطلق من إشتراط ثبوت الدين في الذمة ليصح الضمان. والسيد صاحب العروة قدس سره ذهب إلى الجواز مطلقاً. وقوله بالجواز مطلقاً لأنه لا يشترط ما اشترطه الفقهاء الآخرون، كيف؟

من قال بجواز ضمان درك الثمن، اعتبره استثناءاً من شرط كون الضمان في الذمم، اما صاحب العروة فلا يحتاج إلى هذا الاستثناء لأنه يجيز الضمان في العيون؟

وبكلمة: سواء قلنا بجواز ضمان الأعيان أو عدمه، فإن ضمان درك الثمن جائز عند الجميع، وبالسؤال عن سبب الاستثناء قالوا: لوقوعه عرفاً، فاعتمدوا على العرف في هذا الفرع، فبناءاً على أن هذا الضمان عرفي وأن الضمان يجب أن يكون عرفياً ليصح، أجازوا هذا العقد.

 

إشكالٌ ورد[9]

كيف يمكننا القول بجواز الضمان بالأعيان، وحوادث الزمان متغيرة ومتبدلة؟

الجواب: أساس الضمان هو لأجل التغيرات،، فالضمان في حقيقته هو لاستيثاق المال (أي إيجاد ثقة) سواء كان ديناً أو عيناً، وكما نرى اليوم ان الحجاج يؤمنون على أنفسهم قبل الذهاب إلى الحج، أو أن المسافر يقوم بتأمين نفسه إذا أراد السفر إلى دولة معينة، فإذا حدث له حادث تقوم شركة التأمين بدفع المال لعائلته، فإن كان الضمان – كما عرفه الفقهاء – استيثاق المال وهو الهدف منه، فنحن ندور مع هذه الكلمة، فكلّما احتاج الناس إلى الاستيثاق سواء في الأعيان أو غيرها، جاز الضمان والله العالم.

 


[1] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص431.
[2] سورة المائدة: الآية 1.
[3] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص431.
[4] فائدة: عقد الضمان هو أكثر ما تقوم به البنوك في العالم، فالوظيفة المشروعة في البنوك هي أن يكون البنك واسطة بين صاحب المال وصاحب العمل، حيث تقدم أموالاً لمن أراد أن يبني بيتاً أو مشروعاً أو يؤسس عملاً تجارية، ويضمن المال لصاحبه، ويقوم البنك بالضمان بأمرين:بعث خبراء يدرسون جدوائية المشروع وكونه مؤهلاً للإستثمار فيه.أخذ الضمانات الكافية من صاحب العمل كأن يقوم بتسجيل عائدية المشروع بإسم البنك حتى يؤدي كل ديونه.
[5] فائدة: التأمين على النفس عند الشركات على نوعين، الأول أن تقوم الشركات بتأمين الإنسان في مقابل مقدار من المال، والثاني مضافاً إلى ذلك تقوم الشركة بالقيام بأمور للحفاظ على سلامة الإنسان وعدم تعرضه للموت كإعطائه تعليمات في الحفاظ على السلامة ووصايا في السفر والحضر وإرسال طبيب للفحص الدوري و غير ذلك.
[6] قال في المهذب (ج18، ص220): " فصل في التأمين التأمين: هو الالتزام بتدارك النقص أو التلف- بما هو المقرر عندهم- في شي‌ء بعوض معين و لا ريب في مشروعيته." [المقرر].
[7] سورة المائدة: الآية 1.
[8] العروة الوثقى-جماعة المدرسين، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص431.
[9] إشكال من أحد الحضور.