آیةالله السید محمدتقی المدرسي

بحث الفقه

38/01/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: رجوع الضامن على المضمون /كتاب الضمان

 

"إذا ضمن بغير إذن المضمون عنه برئت ذمته‌ ولم يكن له الرجوع عليه.."[1]

مسائل في الضمان

قد يكون الضمان بإذن المضمون عنه وقد لا يكون، وإذا كان بإذنه الصريح أو بحيث رأى العرف أن المضمون عنه ضامنٌ بما يؤديه الضامن للمضمون له فعليه أن يؤدي للضامن.

فإذا كان عامر ضامن عن عبد الله (المضمون عنه) مالاً لعلي (المضمون له) فلو كان عبد الله أذن لعامر بالضمان أو تعورف بين الناس برجوع عامر إلى عبد الله وإلا فيعد عامر متبرعاً بضمانه ولا يحق له الرجوع.

ولو افترضنا صدور الإذن صراحةً أو عرفاً (بالتباني العرفي) فهل يحق لعامر (الضامن) أن يأخذ المال من المضمون عنه (عبد الله) قبل اداءه للمضمون له (علي)؟ وبعبارة أخرى يأخذ من عبد الله المال ليدفعه لعلي؟

قيل ليس له ذلك، لأن عبد الله يضمن لعامر المال ولكن ليس قبل أن يؤدي الدين للمضمون له.

واستدل على ذلك بأدلة عمدتها أصالة البراءة، إذ أن ذمة المضمون عنه فرغت بالضمان واشتغلت ذمة الضامن، فهل تشتغل ذمة المضمون عنه (عبد الله) مجدداً قبل اداء الضامن (عامر)؟ الأصل عدم الإشتغال.

ونحن هنا نورد بحثاً ذكرناه أكثر من مرة يرتبط بعموم مسائل العقود:

العقود بين التحديد الشرعي والتباني العرفي

العقود والمعاملات هي في واقعها شريعة المتعاقدين الا إذا تدخل الشارع منعاً أو تحديداً او إشتراطاً، وتدخل الشرع استثناء وغير دائم، مثل منعه – في باب الضمان - عن اشتراط أي شرط يجلب منفعةً للضامن أو المضمون عنه لأنه ربا، والربا محرّمٌ في كل معاملة ومهما كانت التسمية لقوله تعالى: ﴿وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا[2] .

وفي غير صورة تدخل الشرع المقدس تتبع العقود القصود، فإذا قال المضمون عنه للضامن: اضمن عني الدين وارجع علي، فيعمل بوفقه ولا يحق له الرجوع إلا بعد الأداء، وكذا إذا صرّح بالعكس، بأن يضمن الضامن الدين عن المضمون عنه ولكن يرجع إليه في أداء المال.

وإذا لم تكن هناك صراحة، بل كانت المعاملة سائرة وفق الأعراف وفوق ما تبانى عليه العرف، فنعتمد عليه متى ما كان مبنى العقد مرتبطاً به، مثل ما نقول في أن البيع يكون بعملة البلد، فإذا كان للعرف رأي في ذلك – كما هو الغالب – وكان المتعاقدان قد اعتمدوا عليه فنحن نرجع إليه.

ويبدو أن ما بينه الفقهاء في بيان التحديدات وشبهها إنما هو من جهة إستجلائهم للعرف، فكأنّ حكم الفقهاء هو بيان أن العرف لا يرى في الضمان رجوع الضامن على المضمون عنه قبل أن يدفع للمضمون له.

أما إذا انعكس العرف في موقع من المواقع أو اتفق المتعاقدان على غير ما يراه العرف فلا يتنافى ذلك مع الضمان، لأن الضمان ليس عقداً شرعياً جديداً بل هو عقدٌ عرفيٌ ممضى من قبل الشرع.

وهذا يسري في كل العقود، فإن لم تكن هناك نصوص صريحة في العقود سواء بصورة جزئية أو كلية، فلكل زمانً عرفه ولكل مكانٍ عرفه.

قال السيد اليزدي قدس سره في العروة: "إذا ضمن بغير إذن المضمون عنه برئت ذمته‌ ولم يكن له الرجوع عليه.."[3] وهذا – كما ذكرنا- إن لم يكن هناك عرف إعتمدا عليه مثل ما هو الحال اليوم، حيث التبرع بالضمان أمرٌ نادر، فالعرف في البنوك ومؤسسات التأمين وغيرها يسري بالضمان لا تبرعاً وإنما في مقابل شيء.

وهنا ننوه إلى مسألة اقتصادية هي أن العمل الحقيقي للبنوك هو إيجاد الثقة في المجتمع وتنميته من خلال تهيئة رؤوس الأموال ــ من أصحابها ــ إلى أصحاب المشاريع التنموية، حتى على مستوى الدولة، حيث تقترض الدولة من البنوك لتسيير مشاريعها، كما نجد أن الحكومة الأمريكية اليوم قد استدانت اكثر من عشرين ترليون دولار من بنوكها.

وفي الضمان نحن بحاجة إلى الإذن إما بصورة صريحة وإما بنائية بما يسمى بـ (الشرط الضمني)، أما إذا لم يكن هناك إذناً مباشراً ولا بنائياً (عرفياً) فيعد الضامن متبرعاً، ومادامه كذلك لا يجب على المضمون عنه أن يدفع له ما أداه.

وبما ذكرنا ترتفع الإشكالات التي ذكرها السيد قدس سره في المسألة بقوله: "و إن كان أداؤه بإذنه أو أمره إلا أن يأذن له في الأداء عنه تبرعا منه في وفاء دينه كأن يقول أد ما ضمنت عني و ارجع به علي على إشكال في هذه الصورة أيضا من حيث إن مرجعه حينئذ إلى الوعد الذي لا يلزم الوفاء به"[4] .

ثم يقول السيد قدس سره: "و إذا ضمن بإذنه فله الرجوع عليه بعد الأداء و إن لم يكن [5] بإذنه لأنه بمجرد الإذن في الضمان اشتغلت ذمته من غير توقف على شي‌ء نعم لو أذن له في الضمان تبرعا فضمن ليس له الرجوع عليه لأن الإذن على هذا الوجه كلا إذن‌".

 

زمن الرجوع إلى المضمون عنه

متى يرجع الضامن إلى المضمون عنه؟ هل له الرجوع إليه قبل الأداء ام لا؟ قال السيد اليزدي قدس سره: "ليس للضامن الرجوع على المضمون عنه في صورة الإذن‌ إلا بعد أداء مال الضمان على المشهور بل الظاهر عدم الخلاف فيه ..".

فإذا ضمن عامر مالاً لعلي عن عبد الله، فلا يحق له الرجوع إلى عبد الله (المضمون عنه) إلا بعد اداءه المال لعلي.

 

التفاوت بين الأداء والضمان

لو ضمن عامر ألف دينار عن عبد الله لعلي، ولكنه لم يؤدي ألألف جميعاً، بل أدّى ثمانمائة دينار وأسقط المضمون له الباقي، فهل لعامر أن يأخذ من عبد الله (المضمون عنه) ألف دينار أم ليس له سوى ما أدّاه؟

قال الفقهاء: انما يرجع عليه بمقدار ما أدّى، لماذا؟

أولاً: لأن الضامن وإن اشتغلت ذمته بالضمان، إلا أن ذمة المضمون عنه لا تشتغل إلا بعد الأداء وبمقداره، فحيث برئت ذمة عبد الله (المضمون عنه) من ألف دينار بالضمان، نشك في اشتغالها بأزيد من مقدار الأداء والأصل عدم وجوب الزيادة عليه.

ثانياً: بالضمان لم تفرغ ذمة المضمون عنه وإنما انقلت إلى الضامن، وشرط مطالبة الضامن هو أن يؤدي لعلي وبمقدار ما أدى.

والأول تام إلا أن الثاني استحسان لا يمكن الإعتماد عليه، وتبقى أصالة البراءة الدليل الأقوى في هذه المسألة، قال السيد اليزدي قدس سره: "و إنما يرجع عليه بمقدار ما أدى فليس له المطالبة قبله إما لأن ذمة الضامن و إن اشتغلت حين الضمان بمجرده إلا أن ذمة المضمون عنه لا تشتغل إلا بعد الأداء و بمقداره و إما لأنها تشتغل حين الضمان لكن بشرط الأداء فالأداء على هذا كاشف عن الاشتغال من حينه و إما لأنها و إن اشتغلت بمجرد الضمان إلا أن جواز المطالبة مشروط بالأداء و ظاهرهم هو الوجه الأول"[6] .

 

وفي الختام: نحن بحاجة إلى شيء من الفقه المقارن، بأن نقوم نحن بدراسة العرف بشكل مستمر لنعرف ما يجري فيه وما يتعارف عليه، ففي السابق كان العلماء هم الذين يحددون العرف ويعينونه، فكل الإعتماد كان عليهم في مختلف المجالات، أما اليوم حيث لا وجود لهذه الحالة، بل يستقل التجارة بعرف والصناعة بعرف و.. فلابد أن نلاحظ الأعراف ونصدر الأحكام بما تقتضيه الأعراف، لأن العقود تابعةٌ – عادةً – للأعراف، شريطة أن تكون مرضية بين المتعاقدين ولم تكن مخالفة لأحكام الشرع المقدس.

والله العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


[1] العروة الوثقى: ج5، ص410.
[2] سورة البقرة: الآية 275.
[3] العروة الوثقى: ج5، ص410.
[4] العروة الوثقى: ج5، ص410.
[5] الأداء [ المقرر].
[6] العروة الوثقى: ج5، ص410.