45/03/25
وأما من يقول أن الإرادة هي صرف القدرة في إيجاد الفعل فلا موجب عنده للبحث عن وجود واسطة بين الإرادة وبين الفعل كما سيأتي بيانه، إذ ليس عند صرف القدرة في إيجاد الفعل شيء سوى الفعل .
وبيان ذلك أنه لا إشكال وجدانا في ثبوت الفرق بين حركة المرتعش وحركة الإنسان الاختياري الطبيعي، فلو قلنا: يتحقق الفعل الاختياري بالإرادة بمعنى الشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات لا بشيء آخر لم يبق فرق بين حركة المرتعش وحركة الإنسان الطبيعي، إذ المفروض أن الحركة من الإنسان الطبيعي لا مائز لها عن حركة المرتعش إلا أنها مسبوقة بالإرادة، وبما أن وجود الإرادة ليس بالاختيار وأن هناك علة موجبة تحتم وجود الإرادة فتوجد الإرادة قسرا، وبوجود الإرادة يوجد الفعل فلم يبق فرق بين حركة المرتعش وحركة المختار، لأن حركة المختار حتمية إذا وجدت الإرادة، والإرادة حتمية إذا تمت علتها، والحال أن الوجدان شاهد على ثبوت الفرق بينهما، فالثانية – وهي حركة المختار – يصح تعليلها فيقال: لم تحرك؟ كما أنها موضوع للمدح أو للذم والمثوبة أو العقوبة، فشهادة الوجدان بالفرق بين الحركتين دالة بالوضوح على أن بين الإرادة وبين الفعل عنصرا وسطا هو المائز بين حركة المرتعش وحركة المختار، وهذا العنصر الوسط يسمى بالاختيار أو هجمة النفس أو السلطنة.
والجواب – كما أفاده سيدنا الخوئي قدس سره وفصله وأضاف له السيد الصدر قدس سره – أنه لا ملازمة عقلا بين حاجة الممكن إلى العلة وبين نفي الاختيار، كما لا ملازمة عقلا بين إنكار العلية والقول بالاختيار.
والسر في ذلك أنه ما هي النكتة في حاجة الممكن إلى العلة كي نقول: إذا احتاج إلى العلة لزم أن تكون علته موجبة ومحتمة لوجوده؟ إن النكتة في حاجة الممكن إلى العلة خروجه من حالة الاستواء – وهو تساوي الوجود والعدم - إلى الحالة الفعلية، وهذا الخروج لا يقتضي عقلا أن يكون الممكن واجبا بالغير وإلا لم يوجد، بل قد يوجد وإن لم يكن واجبا بالغير، بمعنى أن الفواعل قسمان: فاعل موجب - كالنار الموجبة للإحراق - وفاعل بالسلطنة، والفاعل بالسلطنة وإن أخرج الممكن من الاستواء إلى الوجود لكنه لا يحتم وجوده، فهو علة مفيضة من دون أن يكون محتما لوجود فعله أي من دون أن يكون فعله واجبا بالغير، فإن قولهم: (الشيء ما لم يجب لم يوجد) ليس آية منزلة، بل هو نكتة منتزعة من دعوى أن الحاجة إلى العلة حاجة إلى العلة الموجبة، وإلا لولاها بحسب نظر أهل المعقول لزم الترجح بلا مرجح، لكن هذا مما لابرهان عليه بل يكفي مطلق الفاعل المفيض في نقل الاختيار وبتبعه من الاستواء إلى الوجود ولو على سبيل الأولوية والترجيح. ومعنى ذلك: أن الفاعل بالاختيار من له أن يفعل وأن لا يفعل، والاختيار بعد العزم والشوق المؤكد غير واجب، وإنما يكون الشوق المؤكد مستتبعا لحركة العضلات على نحو الاقتضاء لا بالفعل ، وإنما يتحقق الشروع في الفعل بالإختيار وهو إعمال السلطنة، لا بالعزم والتصميم واتخاذ القرار ولا بالشوق المؤكد ، فمقتضى كون العنصر الأخير الذي مبدأ الشروع في الفعل اختيارا أن لا تكون علته علة محتمة وإلا لم يكن اختيارا، وهذا يعني أن الاختيار بمعنى إعمال السلطنة ليس وجوبا محضا ولا إمكانا محضا، فهو يشترك مع وجوب الوجود في نقطة وهي أنه كما أن وجوب الوجود في العلل الموجبة يقتضي وجود الفعل فكذلك إعمال السلطنة يقتضي وجود الفعل، إلا أن الأول - وهو الوجوب - محتم لوجود الفعل بخلاف الثاني. كما يشترك إعمال السلطنة مع الإمكان في نقطة، وهي أنه كما أن الإمكان يعني تساوي نسبة الوجود والعدم فقد لا يوجد الممكن فكذلك إعمال السلطنة، إلا أن إعمال السلطنة يمتاز عنه بأن فيه الاقتضاء لإفاضة الوجود بخلاف الإمكان .
وبذلك يتضح الخلل في برهان رغيفي الجائع وطريقي الهارب المتساويين من تمام الجهات، حيث ذكر جملة من الفلاسفة هذين المثالين، كمنبه على ضرورة شمول أن الشيء مالم يجب لم يوجد للاختيار أيضا، فإن تمت علته بأن كان في النفس مرجح وجد، وإن لم تتم علته فلا يعقل وجوده، لذلك لو لم تتم علة اختيار أكل أحد الرغيفين - بالشروع في أكل أحدهما - لم يوجد الأكل، وإذا وجب وجوده فيجب أكل أحد الرغيفين. ولكن المتكلمين يمنعون ذلك، فإن أكل أحد الرغيفين لا يحتاج إلى أكثر من إعمال السلطنة، وهو مرجح وليس محتما.
فتلخص من ذلك أن كلام المتكلمين وبعض الأصوليين أوفق بالوجدان، والوجدان شاهد صادق.