45/03/24
ومن أجل تنقيح مطلب الكلام النفسي الذي ورد في عبارة سيد المنتقى قدس سره فلا بد من تمهيد مقدمة وهي:
قد ذكر السيد الشريف الجرجاني في شرح المواقف أن الكلام النفسي عند الأشاعرة في باب الإنشائيات هو الطلب وفي باب الإخباريات هو أمر وراء العلم ووراء الإرادة، وهو في حق الباري تعالى قديم كسائر صفاته، واستدل على ذلك بقوله عز وجل: (وكلم الله موسى تكليما) بدعوى أن ظاهر الآية قيام الكلام به قيام حلول لا قيام صدور، فهو كلفظ النائم والصائم حيث يقوم النوم والصوم بالإنسان قيام حلول لا قيام صدور، وبناء عليه فكلامه تعالى قائم به لا صادر منه فيكون قديما بقدمه، وحيث إنه لا يعقل قيام الكلام اللفظي الحادث بذاته تعالى فتعين أن يكون المراد به الكلام النفسي .
وبذلك يتضح وجه التأمل في ما أفيد من قبل سيد المنتقى طاب ثراه من أن مدعى الأشاعرة من الكلام النفسي مما لا محذور فيه في الجمل الخبرية دون الجمل الإنشائية، حيث إن المراد بالكلام النفسي في الجمل الخبرية تصور الموضوع والمحمول والنسبة والتصديق بها والبناء عليها، أو فقل: هو الحكم والجزم وبيان ذلك :
أما المنبه الوجداني فلما نراه بالوجدان من أن الإرادة قد تتعلق بالفعل الحالي وتتعلق بالفعل المستقبلي، فيقال: (أريد الصوم غدا) و(أريد حضور الدرس بعد ساعة) فلو كانت الإرادة خصوص ما يستتبع حركة العضلات بالفعل لم تكن متعلقة بالفعل الاستقبالي كما هي متعلقة بالفعل الحالي إلا أن يكون المقصود بالاستتباع الشأني لا الفعلي، كما أن الإرادة قد تخلو من الشوق كما في موارد دفع الأفسد بالفاسد فالمريض قد يقدم بإرادته على بتر رجله وقطع يده تخلصا من خطر الموت دون شوق لذلك، كما أن دعوى أن الإرادة هي صرف القدرة في إيجاد الفعل مخالفة للوجدان، فإن صرف القدرة في إيجاد الفعل تالٍ للإرادة مترتب عليها لا أنه هو الإرادة فإنه لاينفك عن الشروع في الفعل والإرادة بالوجدان متقدمة زمانا على الفعل، ولذلك فقد تتعلق الإرادة بما لا يمكن تحقيقه لمانع فعلي بأن يقال: (أردت تحريك السيارة فلم تتحرك) و(أردت أن أقوم بالفعل الفلاني فلم أستطع)، ولو كانت الإرادة ما يستتبع حصول الفعل أو ما هو مبنى سيدنا الخوئي قدس سره وهو صرف القدرة في إيجاد الفعل لما تصور التفكيك بينها وبين الفعل فهي مما لاحضور لها عند امتناع الفعل لعارض أو مانع من الموانع.
وقد يقال من المنبهات الوجدانية أيضا على أن الإرادة غير صرف القدرة أن الإنسان لو أخذ كأسا معتقدا أنه عصير فأراد شرب العصير وشربه فتبين أنه ماء وليس عصيرا، فما هو المراد؟ هل هو شرب الماء أم شرب العصير الذي لم يتحقق؟ فإذا قلنا: الإرادة صرف القدرة فالذي صرفت القدرة فيه شرب الماء فهو المراد، وإذا قلنا: الإرادة هي العزم فما تعلق به العزم شرب العصير لا شرب الماء وإن كان لم يتحقق. إلا أن يقال - كما عن شيخنا الأستاذ قدس سره - أن الإرادة بمعنى العزم والتصميم أو الشوق المؤكد قد تعلقت بالفعل الخارجي وهو شرب ما في الكأس، وعنوان كونه عصيرا داعي وغاية للفعل، والمراد قد تحقق وإن تخلفت الغاية، فإن الالتفات للعنوان دخيل في العمد لا في الإرادة، وهناك فرق بين العمد والإرادة، فمثلا القتل الخطأي فعل إرادي وإن لم يكن عمديا، فعدم كونه عمديا لعدم الالتفات للعنوان لا ينفي كونه إراديا لصدوره عن عزم واختيار فتخلف الالتفات لا يعني تخلف الإرادة وإنما يعني تخلف العمد، فمن رفع الكأس بقصد أن يشرب عصيرا فشرب ماءً فما شربه مرادٌ لأن الالتفات للعنوان لا دخل له في الإرادة وإن لم يكن فعلا عمديا.
والمهم أن الوجدان شاهد أن الإرادة - دخل فيها عنصر الالتفات أم لم يدخل - هي العزم والتصميم ويتلوها صرف القدرة في إيجاد الفعل.
وأما المنبه الروائي فصحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه السلام: (قلت أخبرني عن الإرادة من الخلق ومن الله فقال عليه السلام: الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك) أي: أن إرادة الله من صفات الفعل وهي نفس فعله لا غير، وأما الإرادة من الإنسان فالضمير، أي: خطور الفعل في ذهن الإنسان، فيقال: أضمر الفعل أي: نواه، (وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل) أي: ما يبدو للإنسان أن يحققه بمعنى عزمه عليه بعد أن خطر في ضميره هو الإرادة. ولم يرد في الرواية الشريفة: (و ما يبدو منهم) كي يقال: إن الرواية تعني صرف القدرة في إيجاد الفعل.
توضيح الاتجاه الأول أن اختيارية الفعل بسبقه بالإرادة لا بشيء آخر، وهذا هو الفرق الوجداني بين حركة المرتعش وحركة الإنسان الطبيعي، فإن حركة الإنسان الطبيعي مسبوقة بالإرادة - بمعنى الشوق المستتبع في نفسه لحركة العضلات - بخلاف حركة المرتعش، فالميزان في اختيارية الفعل سبقه بالإرادة، ولكن البحث كله في الإرادة فهل الإرادة مسبوقة بعلة تحتم وجودها أم لا؟ قد ذكر الفلاسفة أن الإرادة أمر ممكن الوجود كسائر الممكنات، والوجود الإمكاني لا يعقل وجوده دون علة توجب وجوده، فإن الشيء ما لم يجب لم يوجد، أي إما أن تسبق الإرادة علة تامة تفرض حصولها وتحتم وجودها وإما أن لا يسبقها ذلك، فعلى الأول توجد الإرادة قهرا ويوجد الفعل بعدها لأن المناط في حصول الفعل الإرادي سبق الإرادة، وعلى الثاني لا يعقل وجود الإرادة وإلا لزم الترجح بلا مرجح وهو محال.