الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/05/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ذكرنا سابقاً أن من استولى على شجرتين يعلم احداهما ملك الغير، فإن الحكم الوضعي وهو ضمان ما يتلف منهما متفرع على احراز ان ما تلف هو ملك الغير، وهذا لا يحرز بمجرد العلم الاجمالي أن إحداهما ملك الغير.
ولكن أجيب عن ذلك: كما في كلمات المحقق الاصفهاني والسيد الامام والسيد الشهيد «قد سرهم»: بان هناك وجوهاً ثلاثة قد يتوسل بها لإثبات الحكم الوضعي في المقام.
الوجه الاول: يدعى بان مفاد على اليد ما اخذت حتى تؤدي، او ان معقد الارتكاز العقلائي في المقام على ان من استولى على عين كانت في عهدته. فهذا هو المقصود بقوله: «على اليد ما اخذت حتى تؤدي». اي أن الاخذ موجب لكون العين في عهدة الآخذ، وبالتالي فمقتضى كون العين في عهدة الآخذ وجوب ردّها، غاية ما في الباب إن كانت موجودة كان ردّها بردّ شخصها، وإن كانت تالفة كان ردّها برد بدلها مثلا او قيمة. اذن فمبجرد الاستيلاء على العين يتنجز كون العين في عهدته والمفروض انه استولى على العينين معاً وإحداهما ملك له. ومعنى كون العين في عهدته وجوب ردها شخصا في فرض وجودها، بدلا في فرض تلفها، فقد تنجز بمجرد الاستيلاء وجوب الرد بما يشمل رد الشخص او ردب البدل.
انما الكلام في ان المرتكز العقلائي هل يستحسن ثبوت العين في العهدة حتى مع فرض تلفها او انما يرى ثبوت العين في العهدة في فرض وجودها فتعميم هذا المعنى وهو ثبوت العين في العهدة بالاستيلاء والاخذ حتى لفرض التلف قد لا يحرز انه عقلائي. لذلك ذهب واصر المحقق الاصفهاني على:
الوجه الثاني: وهو ان يقال: ان الاستيلاء على العين اما بنحو انه مفاد على العين او انه ارتكاز عقلائي مع غمض النظر عن حديث «على اليد ما اخذت حتى تؤدي» ان الاستيلاء على العين موجب لثبوت العين في العهدة بما هي مال لا بما هي هي، فإن مناط الضمان هو المالية فالثابت في العهدة بعد اخذ العين والاستيلاء عليها ثبوت العهدة بما هي مال، وبالتالي حيث ان المالية متمظهرة بإحدى خصائص ثلاث: اما بالخصوصية الشخصية، او بالخصوصية الصنفية، او بالخصوصية القيمية. وبين هذه الخصوصيات الثلاثة طولية. بمعنى ان كانت العين موجود فالمالية تتمظهر بالخصوصية الشخصية، فإن فقدت العين حقيقة او حكما كما لو غرقت او سلّمت لظالم لا يمكن استرجاعها اما تلف حقيقي او حكمي، تمظهرت ماليتها بالخصوصية الصنفية بمعنى المثل الذي يقوم مقامها، فإن لم يوجد لها مثل إما حقيقة او حكما كما لو كان لها مثل لكن لا يمكن الوصول اليه ولا يمكن تحصيله فهي ليس لها مثل اما حقيقة او حكما تمظهرت ماليتها في القيمة السوقية. اذن بالنتيجة الاستيلاء على العين موجب لثبوت العين في العهدة بما هي مال اما متمظهراً في خصوصيتها الشخصية او في خصوصيتها الصنفية او في خصوصيتها القينية، وبالتالي: فمن حين الاستيلاء على العين تنجز على المستولي ثبوت العين في عهدته بما هي مال، فلذلك ضمانها في فرض تلفها عيناً ومثلاً بحيث لم يبق الا قيمتها ضمانها قد تنجز من اول الاول يعني من حين الاستيلاء.
فان شكك في ارتكازية ذلك ايضا وقيل بأن هذا تحليل وتأمل عقلي وليس عرفياً، وصل الكلام الى:
الوجه الثالث: وهو ما ارشد اليه السيد الشهيد في بعض ابحاثه الفقهية:
ان الاستيلاء على العين لا اشكال انه موجب لحكم تكليفي يعبر عنه بالعهدة وهو: ان العين يجب ردها فان لم يمكن ردها وجب حفظها. ولكن يسأل هل لموضوعية في الاستيلاء ام لملاك؟ بمعنى ان وجوب الرد والحفظ اذا كانت العين موجودة، هل لموضوعية في الاستيلاء ام لملاك يقتضي ذلك؟
لا محالة لملاك يقتضي ذلك، والملاك هو حرمة مال الغير، فإن حرمة مال الغير التي تقتضي ان لا يذهب هدراً هذه الحرمة اقتضت وجوب رده ان امكن وان لم يمكن فيجب حفظه، فبالنتيجة: الذي تنجز هو الملاك الذي اقتضاهما، الاستيلاء على العين اقتضى تنجز الملاك وهو حرمة مال الغير، وهذا الملاك هو الذي اوجب وجوب الرد ان امكن ووجوب الحفظ ان لم يمكن.
فاذا افترضنا ان العين ليست موجودة، فنفس ذاك الملاك الذي هو حرمة مال الغير يقتضي الآن اشتغال الذمة بالمثل ان كان لها مثل او بالقيمة ان لم يكن لها مثل. اذن بالنتيجة ما دم المتنجز من اول الامر هو الملاك فهذا الملاك الذي تنجز من يوم الاستيلاء هذا الملاك كما اقتضى عهدة في فرض وجود العين اقتضى ذمة في فرض عدهما، فاشتغال الذمة بقيمتها متنجز من اول الامر مع انها لم تتلف بعد لكن الذمة اشتغلت بقيمتها من اول الامر لتنجز الملاك الذي اقتضى ثبوت العهدة والذمة.
فبالنتيجة: من استولى على عينين كشجرتين فتلفت احداهما فقد تنجز عليه ضمان التالف منذ يوم الاستيلاء، وبالتالي فالعلم الاجمالي بان احدى الشجرتين ملك الغير هو علم اجمالي بضمان ما التالف أو ضمان الاخرى او ضمان التالف وبحرمة التصرف في الاخرى فهو علم اجمالي منجز.
هذا بالنسبة الى حكم نفس الشجرتين.
وأما في المقام الثاني: فهو حكم المنافع المتصلة. كما اذا استولى على دارين فالحكم في منافعهما المتصلة كالسكن مثلا، فهل يضمن المستولي السكن وإن كان سكنا لسنة أخرى؟ يعني السكن الذي ليس بالفعل بل هو مقدر، أي بمجرد ان يستولي على العين يضمن منافعها المتصلة المستقبلية وان لم تكن فعلية، هذا هو محل الكلام. اذ لا اشكال في ضمان منافعها المتصلة الفعلية.
فهنا في مثل هذا المورد كما فصلّنا حيث ان المحقق «قده» في «فوائد الاصول» لم يفصل الصور ولم يفرزها، بين ان يكون هناك استيلاء او لا يكون، بين ان يكون هناك سبق لملك الغير او لا يكون كما فرزنا الصور. لذلك نقول:
من كانت لديه عينان كشجرتين او دارين فتارة يكونان مسبوقين بالملك «ملك الغير» فهذا واضح فان مقتضى استصحاب ملك الغير في كل منهما تنجز الحرمة والتكليفية والوضعية من اول الاول، هذا ليس محل الكلام. ولكن اذا لم تكن الحالة السابقة هي ملكية الغير لهما معا، وانما علم الآن ابتداء اجمالا بان احداهما ملك الغير. فتارة لا يكون مستوليا عليهما، ليست له يد على العينين فياتي ما ذكرنا سابقا من أنه لا اشكال في ثبوت حرمة التصرف بمقتضى منجزية العلم الاجمالي، واما الحكم الوضعي وهو ضمان ما يُتلِف من أي منهما فهو غير ثابت وغير محرز كما ناقشنا فيه فيما سبق، لانه لم يحرز ان ما اتلفه هو ملك الغير.
وأما اذا استولى عليهما فصارت له يد على كليهما، والكلام الآن في المنافع المتصلة المستجدة يعني المستقبلية لا المنافع المتصلة الفعلية. ففي مثل هذا الفرض نتكلم تارة عن الحكم التكليفي وتارة عن الحكم الوضعي.
اما بالنسبة للحكم التكليفي: فيأتي ما ذكره سيد المنتقى «قده» تبعا لما ذكره المحقق النائيني في فوائد الاصول، من ان قول المولى: اجتنب عن ملك الغير، هل يشمل الاجتناب عن منافعه المستقبلية عرفا ام لا؟ بمعنى انه لو اجتنب التصرف فيه بالفعل، فلم يتصرف لا في العين ولا في منافعها الفعلية وانما تصرف في المنافع المستقبلية فلا يعد مجتنباً عن العين، فنفس قول المولى له اجتنب العين، يعني اقطع جميع الصلات والملابسات مع هذه العين ما دامت ملكا للغير سواء كانت عينا منافع فعلية منافع مستقبلية. لا يصدق عليك ان مجتنب عن العين حتى تقطع العلقة عن جميع ذلك.
وقد قلنا فيما سبق ان هذا الاستظهار العرفي الجميل لو تم في المنافع المتصلة فلا نسلّم به في المنافع المنفصلة كاللبن الذي فصل عن الشاة، والصوف الذي فصل عن الشاة، والثمرة التي فصلت عن الشجرة. فإنه لا يقال لمن اجتنب التصرف في الشجرة ولكنه لم يجتنب التصرف في الثمرة حين حصولها انه لم يجتنب عن الشجرة، بل كلاهما مال وعين مستقلة، ومقتضى انحلال الحكم انحلاله بانحلال افراده وموضوعاته، هذا مغصوب وهذا مغصوب اخر، ولذلك لو تصرف فيهما معا لاستحق عقوبتين لا عقوبة واحدة. إذن هناك انحلال في الحرمة وانحلال في الاجتناب بانحلال الافراد.
واما من ناحية الحكم الوضعي: كما لو وضع يده على العينين، فجاءنا الحديث «على اليد ما اخذت حتى تؤدي» فهل يصح ان يقال بمجرد الاستيلاء على العينين ضمن منافع كل من العينين الفعلية والمستقبلية، ام لا؟
ذكرنا فيما سبق: ان المحقق النائيني «قده» يقول بان من استولى على دارين يعلم اجمالا ان احداهما ملك الغير فهو ضامن للمنافع الفعلية والمستقبلية بمجرد الاستيلاء حتى لو كانت هذه المنافع المستقبلية منفصلة، فعلمه الاجمالي بأن احد الدارين ملك للغير علم اجمالي بالضمان.
فقلنا في فيما سبق هذا لا يتم الا بدعوى ارتكاز عقلائي، لأن الحكم لا يثبت موضوعه فالعلم الاجمالي بالحكم لا يعني الحكم الاجمالي الموضوع، وبيان ذلك: ان من استولى على دارين يعلم ان احداهما ملك الغير فهو يعلم بالحكم، يعني يعلم انه ضامن من الان لتلف المنافع المستقلبة والفعلية لما هو ملك الغير، اما هل ان استيلاءه على الدارين استيلاء على المنافع المستقبلية ام لا؟ نحتاج الى ان نحرز الموضوع، لا يكفي ان العلم الاجمالي علم بالحكم. بل لا نثبت الاستيلاء، لان المفروض ان الحكم متفرع على صدق الاستيلاء، فهل الاستيلاء على الدارين استيلاء على منافعهما الفعلية والمستقبيلة كي يتفرع عليه العلم بضمان منافهما الفعلية والمستقبلية فعلاً؟ فالعلم بالضمان فرع العلم بصدق الاستيلاء فنحتاج الى تدخل المرتكز العقلائي. فلا يمكن تمامية كلام النائيني إلا باقحام المرتكز العقلائي لإثبات الموضوع. اذ لا يكفي ثبوت الحكم للعلم الاجمالي ما لم يثبت الموضوع. فلابد ان نقول: المرتكز العقلائي كما يقول ان الاجتناب عن العين انما يتم بقطع الصلة معها اي بالاجتناب عن جميع منافعها الفعلية والمستقبلية كذلك الاستيلاء على العين استيلاء على منافعها الفعلية والمستقبلية، ومقتضى تدخل المرتكز العقلائي في تنقيح الموضوع العلم الاجمالي بالحكم. فأنا اعلم اجمالا من الآن بحرمة التصرف ووجوب الاجتناب، واعلم اجمالا من الآن بالضمان. لذلك قلنا فيما سبق لو سلمنا بهذا الارتكاز العقلائي في المنافع المتصلة لم نسلم به في المنافع المنفصلة، فانه لا يساعد الارتكاز العقلائي على ان من استولى على شجرة فقد استولى على ثمرتها، وان كان قد استولى على قابليتها، اما الاستيلاء على الشجرة ذات القابلية للاثمار ليس استيلاء على ثمرها، او الاستيلاء على الشاة ذات القابلية للالبان وللتبيض ليس استيلاء على لبنها وبيضتها. فبالتالي لو سلمنا هذا الارتكاز العقلائي المنقح للموضوع في جانب المنافع المتصلة فعلية او مستقبلية لم نسلم به في جانب المنافع المنفصلة. هذا تمام الكلام في بحث ملاقي احد اطراف الشبهة المحصورة وبذلك يتم الكلام في بحث العلم الاجمالي ومنجزيته وتنبيهاته.
• ندخل الآن في بحث جديد وهو بحث «دوران الامر بين الاقل والاكثر»
وهو ما عبّر عنه ب «جريان البراءة عند دوران الامر بين الاقل والاكثر».
هناك فرق بين الاقل والاكثر الاستقلاليين والاقل والاكثر الارتباطيين. والضابط في الفرق:
كلما كان الإتيان بالاقل تبعيضا في الامتثال على فرض وجوب الاكثر كان من الاقل والاكثر الاستقلاليين، وكلما لا يكون الإتيان بالاقل تبعيضا في الامتثال على فرض وجوب الاكثر فهو من الاقل والاكثر الارتباطيين. مثلا: اذا دار امر صوم يوم القضاء كما لا اعلم ان علي قضاء عشرة او قضاء خمسة، لا اشكال بأن الإتيان بالخمسة على فرض وجوب العشرة واقعا وانا لا اعلم به تبعيضا في الامتثال، فبما ان الاتيان في الاقل هنا على فرض وجوب الاكثر هنا تبعيض في الامتثال هذا امتثال وذاك امتثال اخر، فهو من الاقل والاكثر الاستقلاليين.
وأما اذا دار الأمر بين اقل واكثر لا يحقق التبعيض، كما لا ادري ان الواجب علي في الصلاة الصلاة مع السورة او بدونها. لكنني لو أتيب بصلاة بدون سورة وكان الواجب علي واقعاً الصلاة مع السورة، لم يكن الاتيان بالاقل تبعيضاً في الامتثال. إذن هذا يعني انه من الاقل والاكثر الارتباطيين. لا إشكال في جريان البراءة في الامر بين الاقل والاكثر الاستقلاليين. اذا دار امر القضاء بين عشرة أيام او خمسة أيام فيمن اجراء البراءة عن وجوب الخمسة الزائدة. إلّا في موردين تعرض لهما المحقق النائيني وبحث عنها في فوائد الاصول واجود التقريرات نتعرض لهما إن شاء الله تعالى.