الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/04/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ما زال الكلام في مطلب السيّد الشهيد «قده» حيث أفاد:
بأنه إذا علم المكلّف إجمالاً بنجاسة أحد الدرهمين، فلديه علم إجمالي بحرمة وضعية حتى قبل الملاقاة، إذ يعلم بأنه إمّا يحرم عليه الصلاة في ثوب ملاقي للدرهم الأول، أو تحرم عليه الصلاة في الثوب الملاقي للدرهم الثاني. أو فقل: يعلم بحرمة الوضوء في الماء الملاقي للدرهم الاول، أو حرمة الوضوء في الماء الملاقي للدرهم الثاني. وهذه الحرمة فعلية وإن كانت حرام استقبالياً على نحو الواجب المعلق كما ذكرنا في مثال شهر رمضان، انه قد يجب على القول بوجوب صوم شهر رمضان كلّه منذ أول غروب فإنه في أول غروب في أول ليلة من ليالي شهر رمضان يعلم بوجوب فعلي لصوم الشهر كله وإن كان الواجب مستقبلياً، فكذلك الأمر في المقام حيث يعلم بحرمة فعلية للصلاة في الملاقي لأحدهما وإن كانت اتصاف الملاقي بالحرمة فرع حصول الملاقاة وفي ظرف الصلاة، فإن اتصاف الملاقي بالحرمة على فرض حصول الصلاة وحصول الملاقاة.
وذكرنا: أنّ بعض تلامذته: أشكل عليه في «أضواء وآراء، ج3، ص90»:
بأن منجزية العلم الاجمالي فرع تعارض الأصول في طرفيه، وتعارض الأصول في طرفيه فرع صدور الترخيص للطرفين معا بالفعل، فاذا علم اجمالاً بنجاسة أحد الماءين فعلاً كان العلم الاجمالي منجزاً لتعارض الترخيص في ماء «أ» مع ماء بالفعل لوصول الترخيصين بالفعل وهو شمول دليل أصالة الطهارة لكليهما بالفعل، وهذا لا يتوفر في المقام، والسر في ذلك:
أنه إذا علم إجمالاً إما بنجاسة درهم «أ» أو نجاسة درهم «ب» ولم تحصل بعد ملاقاة لأحدهما، وعندما لاقى الماء لدرهم «أ» خرج درهم «ب» عن محل الابتلاء، فلم يجتمعا في ظرف واحد، اي ملاقاة الماء لدرهم «أ» مع وجود درهم «ب» تحت محل الابتلاء، فهنا في هذا الفرض لم يصل الترخيصان معا في ظرف واحد، اي قبل حصول الملاقاة إذا جئنا لدرهم «ب» فهو داخل في محل الابتلاء، ولكن تجري أصالة الطهارة فيه بلحاظ ما يمكن ان يلاقيه وان لم تحصل ملاقاة بالفعل، حيث نقول: هذا الدرهم البغلّي في نفسه يجوز الوضوء بملاقيه على فرض حصول الملاقي، وبالتالي: فتجري أصالة الطهارة فيه الان ولو بلحاظ جواز الوضوء بملاقيه ان كان ماء أو الصلاة بملاقيه ان كان ثوباً. ثم خرج هذا الدرهم عن محل الابتلاء، وبعد ان خرج عن محل الابتلاء لاقى الماء الدرهم الأول وهو درهم «أ»، فقبل ملاقاة الماء للدرهم «أ» لم تكن تجري في الماء أصالة الطهارة إذ ان أصالة الطهارة _ذكرنا هذا الكلام دعما وتقريباً لكلامه_ إذ ظاهر «كل شيء لك نظيف حتى تعلم انه قذر» ان موضوع أصالة الطهارة من كان شيئاً بالفعل، لا ما كان شيئاً على تقدير، وحيث ان الملاقي قبل الملاقاة ليس شيئاً بالفعل كي يكون مشكوكاً بالفعل، فلا يكون مجرى لأصالة الطهارة قبل الملاقاة. فإذا حصلت الملاقاة تجري الآن أصالة الطهارة في الملاقي بلا معارض، إذ لا يلزم من جريان أصالة الطهارة الآن في الملاقي بعد خروج درهم «ب» عن محل الابتلاء مناقضة ارتكازية، إذ لا يرى العقلاء مناقضة بين طهارة الملاقي بعد خروج درهم «ب» عن محل الابتلاء وطهارة درهم «ب» قبل دخوله في محل الابتلاء، إذ ما لم يصل الترخيصان مع في ظرف واحد فلا يرى العقلاء مناقضة بين الترخيص في كليهما والتكليف المعلوم بالإجمال. هذا ملّخص ما افاده في الاشكال.
ويلاحظ على ما افيد: _وإن لم يذكر ذلك السيد الشهيد ولكن يتصيد ذلك من روح مبانيه_:
أولاً: لا يتوقف جريان أصالة الطهارة في الملاقي على فرض حصول الملاقاة، فيمكن جريان أصالة الطهارة في عنوان الملاقي وان لم تحصل ملاقاة بعد، لأن المناط في جريان أصالة الطهارة ان يترتب اثر فعلي على الجريان ولو كان هذا الاثر الفعلي الاخبار عن حكم الشارع بأن الملاقي لهذا الدرهم طاهر. فتجري أصالة الطهارة في الملاقي «عنوان الملاقي» للدرهم الاول، وتتعارض مع أصالة الطهارة في عنوان الملاقي للدرهم الثاني. وبالتالي فلا تتوقف جريان أصالة الطهارة في عنوان الملاقي على فرض وجوده، إذ يكفي في الجريان وجود اثر يرفع لغوية الجريان، وبذلك قد وصل الترخيصان بالفعل وتنجز العلم الاجمالي.
ثانياً: لو لم نقل بذلك، وقلنا: ظاهر قوله «كل شيء لك نظيف حتى تعلم انه قذر» ظاهره ان مجرى أصالة الطهارة ما كان شيئا مشكوكا بالفعل، والملاقي ليس شيئا مشكوكا بالفعل قبل حصول الملاقاة، اذن فهل يشترك في منجزية العلم الاجمالي المبتنية على تعارض الأصول في اطرافه وصول الترخيصين بالفعل؟ أو يكفي في ذلك وصول كل ترخيص في ظرف الابتلاء به؟
وهذا ما ركّز عليه السيد الشهيد من «ص301 - 303، ج5 من البحوث» يدور في هذه النقطة: أنه لا يعتبر في وصول الترخيصين لكي يتحقق التعارض بينهما وصولهما بالفعل، بل وصول الترخيصين كل في ظرف الابتلاء به.
فبناء على ذلك نقول: إذا نظرنا لدرهم «ب» قبل خروجه عن محل الابتلاء. فنقول: هذا الدرهم مشكوك فقط فتجري فيه أصالة الطهارة بالفعل، وأثرها جواز الوضوء بما يلاقيه ان كان ماء أو جواز الصلاة فيه ان كان ثوباً، والآن قبل خروج الدرهم الثاني عن محل الابتلاء من الآن اقول: وتجري أصالة الطهارة في الملاقي لدرهم «أ» في ظرف الملاقاة، لا أنها تجري الآن بل تجري في ظرف الملاقاة، فاصالة الطهارة في الدرهم «ب» تجري الان بلحاظ اثره وهو جواز الوضوء بملاقيه، وتجري أصالة الطهارة في ظرف «أ» في ظرف الملاقاة. فإن قلت: جريانها في ظرف الملاقاة اي اثر له الآن؟
قلنا: اثره التأمين من الحرمة الوضعية المعلومة الآن، فإن الحرمة الوضعية لا تتوقف على الملاقاة كما ذكرنا مبناه، حيث يقول: بمجرد ان تعلم بنجاسة أحد الدرهمين فانت تعلم بحرمة الصلاة في الملاقي للاول أو الملاقي للثاني، فالحرمة الوضعية من الان، فاذا كانت الحرمة الوضعية موجودة الآن، وان كانت حراما مستقبليا، إذن بالنتيجة: أجري أصالة الطهارة في درهم «ب» الآن لإثبات جواز الوضوء أو الصلاة في ملاقيه، وتجري أصالة الطهارة في الملاقي لدرهم «أ» في ظرف الملاقاة للتأمين من الحرمة الوضعية المعلومة إجمالاً الآن. وبالتالي فالجمع بين هذين الترخيصين وان كان كل منهما في ظرفه، فالجمع بين هذين الترخيصين ترخيص في المخالفة القطعية أو محقق لارتكاز المناقضة.
إذن لبُّ كلام السيد الشهيد «قده» أننا نسلّم أن منجزية العلم الإجمالي فرع تعارض الاصول. لكن تعارض الأصول لا يتوقف وصول الترخيصين للطرفين بالفعل؛ بل يكفي في التعارض هو أن يلزم من الجمع بينهما الترخيص في المخالفة القطعية، أو يلزم من الجمع بينهما ارتكاز المناقضة، وهذا المحذور لا يتوقف على وصولهما بالفعل، بل يكفي فيه وصول كل منهما في ظرف الابتلاء به. فتتعارض أصالة الطهارة في درهم «ب» الآن مع أصالة الطهارة في الملاقي لدرهم «أ» في ظرفه لأن الجمع بينهما ترخيص في المخالفة القطعية.
وهذا المطلب _عندما نقول بتعار ض الترخيصين في الاطرف _ كما قلنا لا يتوقف على تحقق الملاقاة، فلو حصلت الملاقاة بعد ذلك لم يجر فيها أصالة الطهارة مرة اخرى، فاصالة الطاهرة بعد حصول الملاقاة في الملاقي هل تؤّمن من حرمة جديدة؟ أو بنفس الحرمة المعلومة بالإجمال من الأول؟
فبما أن أصالة الطهارة في الملاقي بعد حصول الملاقاة لا تؤمّن من حرمة جديدة كي يقال إذن تجري أصالة الطهارة الآن في الملاقي بلا معارض لأنها تؤمّن حرمة جديدة وهذه الحرمة الجديدة إنما حدثت بعد خروج درهم «ب» عن محل الابتلاء.
بل نقول: انما تؤمن منه أصالة الطهارة في الملاقي هي نفس الحرمة الوضعية قبل حصول الملاقاة. إذن أصالة الطهارة الآن في الملاقي معارضة لأصالة الطهارة التي كانت في درهم «ب» قبل خروجه عن محل الابتلاء.
وقلنا ثالثاً: لو سلمنا بأن أصالة الطهارة اي قوله «كل شيء لك نظيف حتى تعلم انه قذر» منصرف عن الملاقي قبل ملاقيه. فتجري أصالة البراءة عن المانعية، فإنه لا يوجد في دليلها هذا الانصراف. فنقول: أصالة البراءة عن مانعية الملاقي للصلاة معارضة لأصالة البراءة عن مانعية الملاقي للدرهم «ب». أصالة البراءة عن مانعية الملاقي لدرهم «أ» معارضة لأصالة البراءة عن مانعية الملاقي لدرهم «ب».
وهذا الذي افاده السيد الشهيد «قده» ذكره في «شرحه للعروة، ج1، ص496» فراجع هناك. حيث ذكر مثال وهو: ما إذا علم بقلّة أحد الكرّين.
فإذا كان لدينا كرّان ثم علمنا اجمالا بنقص احدهما عن الكرّية، وبعد أن علمنا إجمالاً بنقص احدهما عن الكرّية غسلنا ثوباً متنجساً بالبول مرة واحدة بأحدهما المعين، لنفترض كرّ الف، غسلنا به ثوبا متنجساً بالبول مرة واحدة، بحيث لو كان «أ» قليلا لتنجس بملاقاة الثوب المتنجس.
فهنا في هذا المثال: هل يجري استصحاب الكرّية في ماء «أ» لإثبات طهارته وعدم تأثره بملاقاة الثوب المتنجس بالبول؟ بل قد يقال: طهر الثوب المتنجس بالبول بالتطهير به بناء على كفاية الكرية في التطهير مرة واحدة؟!.
فذكر السيد الشهيد هناك، الكلام هو الكلام، حيث قال: هناك علم اجمالي منجز حتى قبل حصول الملاقاة فإنني إذا علمت اجمالا بنقص أحد المائين عن الكرية فقد علمت اجمالا بحرمة وضعية وهي: عدم جريان الصلاة في الملاقي لهذا على فرض كون الملاقي متنجساً، أو ذاك؟، وبناء على هذه الحرمة الوضعية فيتعارض استصحاب الكرية ويكون العلم الاجمالي منجزاً.
وأما الملاحظات الثلاث التي عليه فيأتي عنها الكلام يوم غد إن شاء الله تعالى.