الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/04/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

وقع البحث بين اعلام في التنبيه الاخير من تنبيهات منجزية العلم الاجمالي وهو البحث عن ملاقي أحد اطراف الشبهة المحصورة، وقد بحث فيه الاصوليون بحثا فقهيا واعتبروه من صغيرات التنبيه السابق وهو اشتراك العلمين الاجمالين في طرفين، والبحث في المقام له ثلاث صور:
الصورة الاولى: ان يعلم اجمالاً بنجاسة أحد الاناءين مثلاً ثم تلاقي يده احدهما مع جريان استصحاب النجاسة فيهما او فيما لاقته يده، كما لو علم ان الحالة السابقة لما لاقته يده هي النجاسة، او علم بأن الحالة السابقة فيهما معاً هي النجاسة ثم علم بطهارة احدهما من دون تعيين، فإذا كان ما لاقته يده حالته السابقة النجاسة فمقتضى استصحاب النجاسة البناء على نجاسة اليد باعتبار أنها اثر شرعي من آثار المستصحب، وهذا لا كلام فيه.
الصورة الثانية: أن لا تعلم الحالة السابقة بأي منهما، ولكن لا يميز ما لاقته يده، بمعنى انه يعلم اجمالا بنجاسة احد المائين ويعلم أن يده لاقت احدهما، لكن لا يعين الملاقى بيده فهو مردد بين الطرفين.
فهنا افاد جملة من الاعلام بان العلم الاجمالي ليس منجزاً، فتجري اصالة الطهارة في يده بلا معارضة، والسر في ذلك: ان العلم الاجمالي متقوم بمانعة الخلو، وهذا لا يصدق على المقام، اي اذا علم اجمالاً بنجاسة احد المائين جاءت مانعة الخلو وهي: النجس ام «أ» او «ب»، واذا لاقت يده احدهما المعين بان يعلم ان يده لاقت «أ» جاءت مانعة الخلو: اذاً هو يعلم اما بنجاسة «أ» او نجاسة باء، واما اذا نعلم ان ما لاقت يده اما نجس او «ب»، هنا لا يستطيع ان يقول أعلم إما بنجاسة يدي او «ب» إذ لعل «ب» الطاهر اي لعل ما لاقته يده هو «ب» نفسه ويكون «ب» هو الطاهر واقعا، فمادام يحتمل ان يدبه لاقت نفس «ب» إذاً لا تحصل مانعة خلو إذ لعل ما لاقته يده هو «ب» وليس غيره. كما انه لا يحصل علم اجمالي واحد وهو ان يقول: اما «ب» نجس او «أ» واليد لانه لا يحرز ان اليد لاقت «أ» إذاً لا يتصور علم اجمالي بنحو مانعة الخلو بين اليد والطرف الاخر او بين الطرف الاخر واليد وملاقيها. وأما مجرد العلم الاجمالي ان اعلم بنجاسة احدهما وان اعلم ان اليد لاقت احداهما فهذا العلم الاجمالي ليس كافيا للمنجزية ما لم يتحول الى مانعة خلو بين طرفين معينين.
الصورة الثالثة_محل البحث_: ما إذا علم اجمالاً بنجاسة أحد الإناءين وعلم بان يده لاقت طرفاً معيناً. كما لو علم ان يده لاقت «أ» بعينه، فهو يعلم اما بنجاسة «أ» او «ب»، ويعلم ان يده لاقت «أ» بعينه. فهنا هل يكون العلم الإجمالي منجزاً ام لا؟
وهذه المسالة بحث في الاصول والفقه بعنوان: «هل ان ملاقي احد اطراف الشبهة المحصور مما يجب الاجتناب عنه ام لا». وبما ان المسالة مهمة في الفقه فقد تعرض سيد العروة «قده» لعدة فروع في «العروة» بناها على مسلكه في المسألة وهو الاحتياط:
فذكر مثلاً: أنه اذا مسّ الانسان احد الجسدين وهو يعلم ان احدهما جسد ميت، فحينئذٍ يتشكل علم اجمالي وهو اما يجب عليه الغسل إن كان ما لا مسته يده ميت الانسان، وإمّا يجب عليه دفن الآخر ان كان الميت هو الاخر، فعنده علم اجمالي: إما يجب عليه غسل المس إن كان ما لاقته يده ميت الإنسان، أو يجب عليه دفن الآخر إن كان ما لامسته يده جسد الحيوان وميت الإنسان هو الآخر.
من الفروع التي تعرض لها سيد العروة «قده»: اذا تزوج احدى امرأتين وهو يعلم ان احداهما في العدة، فاذا تزوج احدى امرأتين وهو يعلم ان احداهما في العدة فحينئذٍ يتشكل لديه علم اجمالي بانه: ان كان التي تزوجها هي التي في العدة حرمت عليه مؤبداً، وان كانت ذات العدة غيرها حرم عليه الزواج منه الى ان تنقضي عدتها، فلديه علم اجمالي اما بالحرمة المؤبدة أو بحرمة الزواج من الأخرى.
ومن الفروع أيضاً: ما إذا وطئ إحدى الزوجتين وهو يعلم ان احداهما حائض، فإنه إن كان قد وطئ الحائض وجبت عليه الكفارة، وان كان الحائض هي الاخرى حرمت عليه وطئها.
إذاً فهذه فروع مختلفة تعرض لها سيد العروة: كلها تشترك في ملاقي احد اطراف الشبهة المحصورة للعلم الإجمالي وبنى على الاحتياط فيها.
لذلك وقع البحث بينهم في حكم ملاقي احد اطراف الشبهة المحصورة، وذهب المشهور منهم الى عدم وجوب الاجتناب، لا يجب اجتناب ملاقي احد اطراف الشبهة المحصورة، حتى أن بعض اساتذتنا «دام ظل» مع ثبوت الدليل عنده على المنجزية حاول ان يتفصى منه بشتى الطرق حتى لا يخالف ما ذهب اليه المشهور من عدم وجوب اجتناب ملاقي أحد اطراف الشبهة المحصورة.
فالكلام ما ذهب اليه المشهور: حيث قالوا: بالنسبة الى ملاقي احد اطراف الشبهة المحصورة يجري الاستصحاب النافي للموضوع. بيان ذلك:
هناك فرق بين حكم شرب الخمر وبين حكم اقامة الحد على شارب الخمر، فلو فرضنا ان المكلف علم اجمالا بان احد المائعين خمر، هنا يتنجز العلم الاجمالي، لأن مقتضى العلم الإجمالي بأن احدهما خمر هو حرمةا الشرب لأيٍّ منهما. ولكن، لو شرب احدهما، «جاءت مسألة وهي هل يقام عليه الحد» هذا ملاقي وشرب احدهما؟.
هنا ذكر المشهور انه: ليس موضوع اقامة الحد هو شرب احد المائعين، وانما موضوع اقامة الحد ان يشرب مائعاً وأن ذلك المائع خمر، الشرب وجداني ولكن كون ذلك المائع خمراً لم يثبت، فمقتضى الاستصحاب عدمه. فمقتضى عدم كون المشروب خمرا ان لا يكون مستحقا عليه.
أيضاً في محل الكلام اذا لاقت يده احد المائعين الذي يعلم ان احدهما نجس. نقول: وجوب تطهير اليد او منجسية اليد ليس موضوعها ملاقي احد المائعين وانما موضوعها ملاقاة النجس وحيث لا يعلم ان الملاقى نجس فيجري استصحاب عدم كون الملاقى نجساً فلا يجب تطهير اليد ولا يحكم بمنجسيتها. وهكذا في سائر الامثلة والفروع الفقهية التي تعرض لها بنى المشهور على عدم وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد الطرفين بناءً على الاستصحاب النافي للموضوع.
وفي مقابل هذا الكلام من ذهب الى المنجزية واستدلوا بوجوه ثلاثة:
الوجه الاول: وهو عبارة عن التشبث بدليل لفظي. ولهذا الدليل اللفظي صياغات ثلاثة: الصياغة الاولى التي تعرّض لها الشيخ الاعظم في «الرسائل» وأشار اليها صاحب الكفاية «قده»: ومحصلها: ان نجاسة الملاقي رشحة من نجاسة الملاقى، وليست نجاسة أخرى، إذ على فرض ان الملاقى نجس فنجاسة الملاقي وهي اليد ليست نجاسة جديدة بل هي نفس النجاسة، فاذا كان نجاسة الملاقي هي رشحة من نجاسة الملاقى فما دلَّ على وجوب اجتناب الملاقى يدل على وجوب اجتناب الملاقي لان النجاسة هي عينها. فهذا نظير ان نعلم بنجاسة احد المائين اما «أ» او «ب» ثم نقسم «ب» إلى قسمين، فإن انقسامه الى قسمين لا يغير المعادلة في شيء، ما زلنا نقول بأنا نعلم بنجاسة «أ» او نجاسة كلا الماءين الذين كانا يشكلان «ب»، هنا ايضا في المقام اذا علم اجمالا اما بنجاسة «أ» او «ب» ولاقت يده «أ» فليس هنا طرفين الملاقي والملاقى بل هي نجاسة واحدة. فالعلم الاجمالي المنجز بين «أ» و«ب» هو نفسه المنجز الملاقي بين «أ» و«ب».
ولكن المحقق الاصفهاني «قده» في «نهاية الدراية» اشكل على ذلك: بان النجاسة امر اعتباري وليس امرا تكوينيا كي يتصور فيه الترشح والانقسام، فبما ان النجاسة امر اعتباري فالمدار على مقدار ما اعتبره الشارع فاذا اعتبر الشارع نجاسة الخمر، فلا دليل على انه اعتبر الملاقي للخمر نجس، هذا اول الكلام، واذا اعتبر الشارع نجاسة الدم فلا دليل ان ما لاقى الدم نجسا، ولذا فصّل الاعلام بين الملاقي المائع والملاقي الجامد، او بين منجسية المتنجس وعدم منجسيته. كل هذا لانهم لا يرون المسالة تكوينية تتعدى من جسم الى اخر وانما المسالة اعتبارية. فلا شاهد على ان هناك ترشحا من نجاسة الملاقي الى الملاقى ما لم يقم دليل على اعتبار تنجس الملاقي، واذا قام دليل على اعتبار تنجس الملاقي فهي نجاسة أخرى، يعني حكم آخر غير الحكم الأول. واما ان مسالة العرف يقيس القذارة التشريعية على القذارة التكوينية فلا عبرة بهذا القياس.
الصياغة الثانية: ما تعرض لها الشيخ الاعظم «قده» وما بعده: من ان ما دل على وجوب اجتناب شيء دلّ على وجوب اجتناب ملاقيه بالدلالة الالتزامية. إذ تارة يقول المشرّع هذا حرام، هذا لا يدل على وجوب اجتناب ملاقيه، اما اذا عبّر ب «اجتنبه» فإن ظاهر هذه العبارة عرفاً ان يجتنب ملاقيه ايضاً، لان اجتناب الملاقي هو اجتنابه عرفا، نظير الامر: تارة يقول المولى: اكرم العالم، والعرف يرى ان اكرام العالم بإكرام ولده، فاذا لم تكرم ولده لم تكرمه، كذلك إذا قال المولى: اجتنب الفاجر، فإنه ظاهر عرفاً باجتناب شركائه واصدقائه فما لم تجتنب ممن معه لم تجتنبه. إذاً ظاهر الامر باجتناب شيء اجتناب ما يساوره وما يلاقيه وما يماسه والا لا يصدق عرفا انه اجتنبه.
إذاً ما دلّ على وجوب اجتناب النجس انما يتحقق امتثاله في اجتناب ملاقيه، فعلى هذا الاساس اذا علم اجمالا ان هنا نجس يجب اجتناب ملاقيه وعلمنا بأننا لاقينا احد الطرفين كان العلم الاجمالي النمجز لوجوب اجتناب احدهما هو المنجز لوجوب اجتناب ما يعلم اجمالاً أنه الملاقي.
ولكن المحقق الاصفهاني «قده» قال: فلو ان الشك اجتنبه ولا يجتنب ملاقيه الا يصدق انه اجتنبه، فاذا قال المولى أجتنب الفاجر ولكنه لم يجتنب اصدقائه يقال اجتنب الفاجر. ولا يقال انه لم يجتنبه عرفاً. فكذلك الامر في المقام.
لكن سيد المنتقى «قده» في «ج5»: أفاد بأنّ المحقق لم يذكر ان الاجتناب له مرتبان: اجتناب في الجملة، واجتناب بالنحو التام. فاذا اجتنب الملاقى ولم يجتنب ما يساوره يقال اجتنب في الجملة، ولكن لا يقال انه حقق الاجتناب التام. واما الاجتناب التام يتحقق باجتناب ملاقيه وما يساوره وما يماسه، إذاً حيث ان ظاهر الامر بالاجتناب مطلوبية الاجتناب التام، فهذا لا يتحقق إلا باجتناب الملاقي.
الصياغة الثالثة: ما نصّ عليه سيد المنتقى والسيد الشهيد في شرح «العروة»: أن المسألة ترجع الى اجتناب النجس لا اجتناب اي شيء، بمعنى انه قد يناقش في الصياغات السابقة. لكن لو قال الشارع: اجتنب النجس «لا اي شيء» او اجتنب الرجس او اجتنب القذر، فبمقتضى مناسبة الحكم للموضوع أنك اجتنبه لانه نجس، ولا يصدق اجتناب النجس بما هو نجس الا باجتناب ملاقيه، فلعنوان النجس خصوصية وموضوعية، بلحاظ ان العرف إذا تلقى هذا الكلام «اجتنب النجس» أن الوجه في الامر باجتناب النجس قذارته، وبما ان القذارة تتعدى للملاقي فلا يفهم من الامر باجتناب النجس الا باجتناب ملاقيه، وبهذا المعنى جاء قوله عز وجل: «والرجز فاهجر» فانه لا يصدق هجر الرجز إلا بهجر ملاقيه.
وبهذا المعنى جاء قوله عزّ وجلّ: ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾.
وبهذا المعنى جاءت رواية عمر ابن شمر قال: جاء رجل الى أبي جعفر الباقر فقال: وقعت الفأرة في خابية فيها سمن او زيت، فما ترى في أكله؟ فقال: لا تأكله، فقال الرجل: إنّ الفأرة اهون عليّ من اترك طعامي لأجلها؟ فقال ابو جعفر : إنّك لم تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدينك إن الله حرّم الميتة من كل شيء».
فيقال ما هو الربط بين قوله «إن الله حرّم الميتة من كل شيء» وبين حرمة أكل السمن أو الزيت، فغاية ان أكل الفأرة محرم، فهذا معلوم، اما لماذا قال الامام «الله حرم الميتة من كل شيء». هذا شاهد على انه اذا امر باجتناب شيء كان دالاً بالالتزام على اجتناب ملاقيه، لذلك قال: يحرم عليك اكل السمن او الزيت لان الله حرم الميتة من كل شيء.
ولكن اشكل سيد المنتقى «قده»: بانه لو ورد عندنا دليل بهذا اللفظ، بان قال «اجتنب النجس» ربما يتم هذا الاستدلال. وليس امرا بالاجتناب، لم يرد عندنا دليل بهذا العنوان «اجتنب النجس» حتى يقال: بانه ظاهر في الامر باجتناب الملاقي. واما قوله «والرجز فاهجر» فإن الوارد في تفسير «الرجز» هو العذاب، يعني اهجر العذاب، يعني اهجر اسباب العذاب وهي المعصية، كما امر بسلوك اسباب المغفرة: قال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾. او ان المراد ب «الرجز» الاثم، لا ان المراد بالرجز النجس او القذر.
الآية: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه﴾ فهي تشير على عدة عناوين التي ليس كلها من النجس. فلم ترد في عنوان النجس كي يستظهر منه ان الامر بالاجتناب امر باجتناب الملاقي.
وأما رواية عمر ابن شمر، فقد ناقشها السيد الخوئي والسيد الصدر والسيد الروحاني. مضافا لضعف سندها بعمر ابن شمر نفسه، أن قوله: «إن الله حرّم الميتة من كل شيء» لا ربط له بحرمة الملاقي، انما هذه الرواية محمولة على فرض تفسخ الميتة، يعني تفسخت في السمن، فلذلك قال «إن الله حرم الميتة من كل شيء» بلحاظ تفسخ اجزائها في السمن.
او كان هذا المحمل بعيدا ولا قرينة عليه، فقوله: «ان الله حرم الميتة من كل شيء» إرشاد الى النجاسة، من باب انه ملاقي النجاسة لا ان الامر بتحريم شيء واجتنابه دال على اجتناب ملاقيه، فغاية ما يستفاد من الرواية هو ذلك.
نعم، بناء على ان الفأر ليست له نفس سائلة وان ميتة ما ليس له نفس سائلة طاهرة، يقع التعارض بين مفاده هذه الرواية والروايات الدالة على ميتة ما ليس له نفس سائلة طاهرة.