الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/04/01

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ذكرنا فيما سبق: أن سيدنا الخوئي «قده» أفاد بأنه إذا علم المكلف إجمالاً إما بنجاسة الإناء الابيض أو الإناء الازرق ثم بعد ساعة علم اجمالاً بقطرة دم إما في الإناء الازرق أو الإناء الاحمر. فهذان العلمان اشتركا في طرف وهو الإناء الازرق، واختلف كل منهما عن الآخر في طرف، وبالتالي فهل العلم الاجمالي الثاني المتأخر زماناً عن الأول منجز أم لا؟.
وأفاد «قده» في مصباح الأصول: بأن المنجزية تدور مدار تعارض الأصول، ففي العلم الإجمالي الأول وهو العلم إما بنجاسة الإناء الابيض أو الأزرق، تكون الأصول متعارضة، بمعنى أن شمول دليل أصالة الطهارة للطرفين مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية. وحيث إن الترخيص في المخالفة القطعية قبيح فلازم ذلك أن لا يشمل دليل الاصل وهو دليل أصالة الطهارة للطرفين معاً، وهذا هو معنى تعارض الاصول، ومقتضى ذلك منجزية العلم الاجمالي الاول. واما إذا لاحظنا العلم الاجمالي الثاني، أي وقوع قطرة دم إما في الإناء الازرق أو الإناء الاحمر، فإن هذا العلم ليس منجزاً، والسر في ذلك عدم تعارض الاصول، والوجه في عدم تعارض الاصول: أن أصالة الطهارة في الإناء الاحمر جارية بلا معارض، أي دليل اصالة الطهارة يشمل الإناء الاحمر بلا معارض، لأن أصالة الطهارة في الإناء الازرق سقطت في زمن سابق، حيث سقطت في العلم الاجمالي الاول السابق قبل ساعة، فبما ان اصالة الطهارة في الإناء الازرق قد سقطت بالمعارضة منذ ساعة مع اصالة الطهارة في الإناء الابيض، والساقط لا يعود للقيام مرة أخرى، إذاً يشمل دليل اصالة الطهارة الإناء الاحمر بلا معارض، والنتيجة هي انحلال العلم الاجمالي في الإناء الاحمر.
ويلاحظ على ما افاده «قده»:
دليل الاصل له اطلاق افرادي واطلاق احوالي. ومعنى الاطلاق الافرادي: انه يجري في المشكوك بلحاظ ذاته مع غمض النظر عن وجود طرف اخر أم لا، فمقتضى الاطلاق الافرادي ان يشمل دليل اصالة الطهارة الإناء الازرق وهو الطرف المشترك بين العلمين ان يشمله في حد ذاته، وهذا الدليل له اطلاقان غير الاطلاق الافرادي «دليل اصالة الطهارة» له اطلاقان احواليان غير الاطلاق الافرادي: الاول: هل يشمل دليل اصالة الطهارة الإناء الازرق وان شمل الإناء الابيض؟. هذا اطلاق احوالي.
الثاني: هل يشمل دليل اصالة الطهارة الإناء الأزرق وان شمل الإناء الاحمر أم لا؟. إذاً يتفرع على الإطلاق الأفرادي وهو شمول دليل أصالة الطهارة في نفسه يتفرع عليه إطلاقان احواليان: وهما هل يشمله دليل اصالة الطهارة حتى مع شموله للابيض وهل يشمله حتى مع شموله للاحمر أم لا؟.
فنقول: مقتضى العلم الإجمالي الحادث قبل ساعة سقوط الاطلاق الأحوالي الأول أي لا يمكن ان يشمل دليل أصالة الطهارة الإناء الازرق في فرض شموله في الإناء الابيض، اذاً من هذه الجهة سقط الاطلاق الاحوالي، اما يبقى السؤال بعد سقوط الاطلاق الاحوالي من جهة الإناء الابيض هل يسقط الاطلاق الاحوالي من جهة الإناء الاحمر أم لا؟، هذا اول الكلام. إذاً سقوط الاطلاق الاحوالي لدليل أصالة الطهارة قبل ساعة بمقتضى العلم الإجمالي الأول لا يستلزم سقوط الاطلاق الافرادي في الإناء الازرق فضلا عن الاطلاق الاحوالي بلحاظ الإناء الاحمر. فهذا إطلاق آخر. وبالتالي حيث لا ملازمة بينهما نقول: وإن سقط الاطلاق الاحوالي الاول لكن ما زال لدليل اصالة الطهارة في اطلاق لا يشمل الإناء الازرق في فرض شموله للإناء الاحمر وهذا معنى تعارض الاصلين المتقضي لمنجزية العلم الاجمالي الثاني. هذا بحسب صياغتنا للمطلب.
واما بحسب صياغة السيد الشهيد «قده»: فقد افاد في مناقشة استاذه الخوئي:
ان ملاك المعارضة بين الأصول: التنافي في الجعل بعد المفروغية عن المقتضي، أي هناك متقضي وهناك مانع، فالمتقضي هو اطلاق دليل اصالة الطهارة، فإن مقتضى هذا الاطلاق ان يشمل الإناء الازرق، ناتي المانع: المانع هو تنافي بين شموله للازرق وشموله للاحمر، هل هناك تنافي بينهما في الجعل أم لا؟.
نقول: لا اشكال بأن شمول دليل اصالة الطهارة للإناء الازرق والاناء الاحمر مستلزم للمنافاة لان الجمع بينهما يقتضي ضرب ما هو المعلوم بالإجمال وهو نجاسة احدهما، فمقتضى هذا التنافي بينهما في الجعل هو اما عدم ظهوره في الشمول لهما أو عدم حجية هذا الظهور. لماذا ترددنا بين الظهور وبين الحجية؟ على الخلاف في أن قبح الترخيص في المخالفة القطعية.
أو فقل: المناقضة بين الغرض الترخيصي والغرض الإلزامي هل هذه من الامور الواضحية البديهية؟ أو من الأمور النظرية؟. فإذا كان قبح الترخيص في المخالفة القطعية من الامور البديهية الواضحة إذاً من الاصل لم ينعقد ظهور، من الأصل لم ينعقد لدليل أصالة الطهارة إطلاق يشمل الإناء الأزرق والإناء الأحمر، باعتبار ان هذا القبح بمثابة القرينة المتصلة المانعة من أصل الظهور، اما إذا قلنا بانه امر نظري وهو مانع من الحجية لأنه بمثابة القرينة المنفصلة والقرينة المنفصلة تصدم الحجة لا اصل الظهور.
على أي حال ملا ك المعارضة في العلم الاجمالي الاول هو نفسه ملاك المعارضة في العلم الاجمالي الثاني. فكما أن دليل أصالة الطهارة لا يشمل قبل ساعة الأبيض والأزرق، لأن الجمع بينهما ترخيص في المخالفة القطعية، كذلك دليل اصالة الطهارة بعد ساعة لا يشمل الازرق والاحمر لان الجمع بينهما ترخيص في المخالفة القطعية. فالنكتة هي النكتة والملاك هو الملاك. ومجرد أن مدلول أصالة الطهارة صار فعلياً في الأزرق قبل ان يصير فعلياً في الأحمر، هذا لا اثر له في نكتة المعارضة، فلنفترض ان دليل أصالة الطهارة شمل الازرق قبل اني شمل الاحمر بساعة هذا لا يخرجه عن نكتة المعارضة. مثلا: لو شككنا في ان هذا الماء الذي نزل الآن من الميزاب طاهر أم نجس؟. جرت فيه اصالة الطهارة، بعد ساعة نزل ماء جديد من الميزاب وبعد ان نزل الماء الجديد من الميزاب حصل لنا علم اجمالي اما بنجاسة الاول أو نجاسة الثاني! فهل هذا يمنع من جريان أصالة الطهارة في الأول أو يمنع من جريانها في الثاني؟ أو يمنع من شمولها معاً؟!. فأن مجرد فعلية اصالة الطهارة في احد الطرفين قبل الآخر لا اثر له في نكتة المعارضة فيقال: بعد ان نزل الماء الثاني وحصل لنا علم اجمالي اما بنجاسة اما الاول أو الثاني قلنا: الان شمول دليل اصالة الطهارة لكلا الماءين ترخيص في المخالفة القطعية، فيتعارض الاصلان فيكون العلم الإجمالي منجز، وإن صار دليل أصالة الطهارة فعليا قبل الآخر فهذا لا أثر له في نكتة المعارضة.
فتلخص من ذلك: أن ما افاده سيدنا «قده» من انحلال العلم الاجمالي حكماً غير تام.
التقريب الثالث لهذه الصورة _صورة ما إذا كان العلم الاجمالي متأخراً زمانا_ ما ذكره السيد الاستاذ «دام ظله»: وهو يتبني على مقدمتين:
المقدمة الاولى: ان مسلكه «دام ظله»: هو أنّ منجزية العلم الإجمالي منجزية عقلائية لا عقلية. بمعنى: أننا لو خلينا والعقل وحده فإنه لا يحكم بالمنجزية، وإنما المنجزية منجزية عقلائية.
غاية ما في الباب اختلف كلامه في «دورته الثانية» عن «دورته الثالثة».
ففي دورته الثانية: بنى على أن الوجه في المنجزية العقلائية الكاشفية. بمعنى: أن العلم الاجمالي وجداناً لا يكشف الا عن الجامع، فاذا علمت اجمالا اما بنجاسة «أ» أو بنجاسة «ب» فالعلم الاجالي الذي انكشف هو نجاسة احدهما الجامع، ولم ينكشف الواقع. فإذا كان العلم الاجمالي كاشف عن الجامع لا عن الواقع فكيف يتنجز الواقع؟!، فاحتجنا إلى ضميمة وهو المرتكز العقلائي.
فيقول: قام المرتكز العقلائي على انكشاف الواقع بهذا العلم الاجمالي. مع أنه وجدانا لم ينكشف به الا الجامع الا ان المرتكز العقلائي يتعامل معه معاملة الكاشف عن الواقع. فإذا انكشف الواقع وجبت الموافقة القطعية حفظا للواقع المنكشف.
وما ذكره في الدورة الثالثة: أن المرتكز العقلائي لا يتصرف في الكاشفية، إذ لا شغل له في الكاشفية فإن الكاشفية امر وجداني بيد العقل ولا ربط له بالمرتكز العقلائي. إذاً ما يتصرف فيه المتركز العقلائي هو المنجزية لا الكاشفية. فقام المرتكز العقلائي على أنه: بعد ان انكشف الجامع ونحن نحتمل انطباق هذا الجامع المنكشف على «أ» ونحتمل انطباقه على «ب» احتمال انطباق الجامع على كل منهما هو الذي اوجب منجزيته، إلى ان المنجز في الواقع ليس هو العلم الاجمالي بل هو الاحتمال، احتمال انطباق هذا الجامع المعلوم على «أ» واحتمال انطباقه على «ب» هو الذي اوجب المنجزية، فهناك ارتكاز عقلائي على انكشاف الجامع على منجزية احتمال الانطباق، حيث إن هذا الاحمال لا مؤمّن له.
المقدمة الثانية: بعد المفروغية عن كون منجزية العلم الاجمالي منجزية عقلائية، فنحن لا نحرز بناء العقلاء على منجزية علم يحتمل تحقق معلومه بعلم اجمالي سابق. ولعله هذا ما اراده صاحب الكفاية من قوله: «ليس عندنا علم بتكليف جديد» فإننا إذا علمنا اما بنجاسة «أ» أو نجاسة «ب» ثم بعد ساعة علمنا بوقوع قطرة دم اما في «ب» أو في «ج»، ولعل القطرة التي وقعت في «ب» هي نفس ما علمنا به أولاً، إذاً ليس عندنا علم بتكليف حادث، وهذا يعني بنظر العقلاء: ما دام العلم الثاني مسبوقاً بعلم ولا نحرز ان معلومه تكليف جديد إذاً لا يحرز بناء العقلاء على كاشفيته عن الواقع أو على منجزية احتمال الانطباق فيه، فالنكتة عند سيدنا الاستاذ: انه لا نحرز بناء العقلاء على منجزية علم مسبوق بمنجزية علم آخر.
ولكن إذا رجعنا للعقلاء نرى انهم يبنون على الاحتجاج وعدم قبول العذر، فاذا قال المولى لعبده: اكرم احد الرجلين فعلم العبد اجمالا اما انه يجب اكرام زيد أو اكرام بكر، بعد ساعة حصل علماً اجماليا اخر، أما إكرام بكر أو اكرام احسان، فحينئذٍ لو أن المكلف ادعى قال: العلم الإجمالي الثاني غير منجز وبالتالي فالذي اكره هو زيد وبكر أما احسان فلا اكرمه لأنني سمعت في الاصول ان العلم الاجمالي الثاني ليس منجزاً وكان في الواقع واجب الاكرام، فإن المولى يحتج عليه ولا يقبل عذره بانه سمع انه غير منجز، بل يحتج عليك بانك قد وصل لك وجوب الاكرام وصولا وجدانيا عبر علم اجمالي كان هذا احد طرفيه. فلو رجعنا إلى المتركز العقلائي لمن نجد أنهم يقبلون العذر ويرفعون اليد عن الاحتجاج بمجرد سبق علم إجمالي آخر.
فتحصل من ذلك: أنّ العلم الاجمالي الثاني منجز وإن تأخر زماناً عن الاول فهو منجَّزٌ حقيقةً وحكماً.
التنبيه الأخير من تنبيهات العلم الاجمالي: «تنبيه فقهي مهم»، ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة. ما هو حكم الملاقي لأحد اطراف الشبهة المحصورة؟. وهو آخر تنبيه من تنبيهات العلم الاجمالي. نبدأ فيه غداً إن شاء الله تعالى.