الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/03/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ما زال الكلام في بيان وجوه عدم منجزية العلم الاجمالي إذا أحد الطرفين خارجاً عن محل الابتلاء. وذكرنا فيما سبق وجهاً لكلام الكفاية وذكرنا الإيرادات عليه.
الوجه الثاني: ما ذكره السيد الشهيد «قده» في بحوثه في شرح العروة، ومحّصله:
ان هناك فرقا بين التكليف وبين الترخيص الظاهري، ففي مجال التكليف يكون شمول التكليف لما يكون المكلف متحركاً نحوه أو منجزاً عنه امر صحيح وليس لغواً. مثلاً: إذا كان المكلف متحركا بطبعه نحو النفقة على العيال، فكونه متحركا بطبعه للانفاق على العيال لا يعني ان أمره بالانفاق على العيال لغو، فإن المحركية الموجودة عنده طبيعة، بينما المحركية المستفادة من الأمر شرعية، فتحريك من هو متحرك طبعاً بمحرك شرعي ليس لغو، اذ يكفي في الثمرة ان يتسند الى المحرك الشرعي، وكذلك مثلا من هو منزجر بطبعه عن اكل القاذورات. فإن زجره شرعاً عمّا هو منزجر عنه ليس لغواً، إذ يكفي في ذلك أن يستند الى الزجر الشرعي. ففي مجال التكليف يتم الكلام وهو ان نقول: إن توجه التكليف بالأمر أو الزجر لمن هو منجز أو متحرك بطبعه ليس لغوا ولا مستهجناً. ولكن الكلام في الترخيص لا في التكليف. فإن الغرض من الترخيص الظاهري اطلاق العنان، فمثلاً: الغرض من البراءة اطلاق العنان، فهل يكون الترخيص فيمن هو منقبض العنان أو مقيد العنان بطبعه صحيحاً؟، مثلا: طبع هذا المكلف أنه منقبض تجاه استعمال التراب، فهو مقيد العمل من جهة استعمال التراب بطبعه، فهل يصح الترخيص الشرعي الظاهري في تناول التراب بأن يقول له المولى مرخص لك ان تستعمل التراب مع انه منقبض عنه بطبعه، فيقول السي «قده» الترخيص الظاهري يعني اطلاق العنان واطلاق العنان لمن هو متقيد العنان لغو، وهذه اللغوية قرينة لبّية منعت إطلاق الأصل العملي لما هو خارج عن محل الابتلاء. فإذا علم اجمالاً اما بنجاسة ماءه أو نجاسة التراب الذي هو لا يزاوله عادة ولا يستخدمه، فإن دليل اصالة الطهارة أو البراءة يشمل الماء بلا معارض، لأن شمول هذا الأصل طهارة أو براءة للتراب لغو والوجه في اللغوية: ان المكلف منقبض عن استعمال التراب بطبعه، فاطلاق العنان له بالاصل الترخيصي مما لا اثر له ما دام المكلف منزجرا ومنقبضا عن بالطبع، فبالنتيجة سوف يحل الانحلال الحكمي فيما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء.
ويلاحظ على ما افاده «قده»: النقض والحل:
اما النقض: فبالترخيص الواقعي، لماذا يقول بالترخيص الواقعي، فلو فرضنا انه لا توجد شبهة موضوعية ولا شبهة مقرونة بالعلم الإجمالي. أليس هناك ترخيص واقعي باستعمال التراب؟ لا اشكال بوجوده، مع ان المكلف منقبض عنه بطبعه ومنزجر عنه بطبعه مع ذلك لا كلام في شمول الترخيص الواقعي لاستعمال التراب ونحوه مما يكون المكلف منقبضا عنه بالطبع.
وأما الحل، فإن المدار على الامكان والمعرضية عقلاً، صحيح انه منقبض عن استعمال التراب لو خلي وطبعه، ولكن هذا لا يعني انه لا يمكنه مزاولة ذلك ولا يمكنه استعمال ذلك، فنفس هذا الامكان _وليس إمكانا عقليا بل امكان عرفي_ العرفي كاف بأن يكون اطلاق العنان ظاهراً أو واقعاً غير مستهجن في حقه وغير لغو، ولو سملت اللغوية والاستهجان في الخطاب الشخصي، كأن يقول له المولى بخطاب شخص استخدم التراب، وهو منقبض عنه بطبعه، لو سلمت اللغوية في ذلك فلا تسلم فيما إذا كان الترخيص بخطاب قانوني وهو: اطلاق دليل البراءة أو اطلاق دليل اصالة البراءة ونحو ذلك.
فهذا الوجه الذي افاده «قده» لا يؤدي الى الانحلال الحكمي فيما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء.
الوجه الثالث: ما ذكره بعض تلامذته في كتاب «مباحث الاصول» وبيانه يحتاج الى تقريب منّا:
بان يقال إن شمول دليل الأصل العملي الترخيصي لكلا طرفي العلم الاجمالي مع كون احدهما مرفرضا والاخر مقبولا، كما لو علم اجمالا بغصبية اما في اللحم الذي تحت يده أو اللحم الذي تحت يد جاره أو يد السلطان، فاللحم الذي تحت يده هو مقبل عليه بطبعه، واللحم الذي تحت يد السلطان نافر عنه بطبعه، فهنا علم اجمالي بغصبية اما فيما تحت يده أو فيما خرج عن تحت يده، اما فيما هو المقبول أو فيما هو المرفوض، فحينئذ دليل البراءة، هل يشملهما معاً مطلقاً؟ أو يشملهما معاً مشروطين؟ أو يشمل المقبول مشروطاً دون المرفوض؟.
هنا وجوه نقوم بتحليلها: نقول هنا عدة محتملات:
المحتمل الاول: ان دليل اصالة البراءة يشمل كلا الطرفين على نحو الاطلاق، الاطلاق الأحوالي، بأن يقول: مرخّص لك في المقبول والمفروض فتُجْري البراءة في كلا الطرفين، ولا اشكال حينئذ ان الترخيص في ارتكاب كلا الطرفين ترخيص في المخالفة القطعية وهو قبيح، أو نقض عقلائي للغرض المعلوم بالإجمال، خلافا للسيد الشهيد في بعض كلماته حيث قال: ما دام الغرض مضمونا لأنه لم يقع فيه بلحاظ انه لا داعي له الى اكل لحم السلطان لأنه ينفر عنه بطبعه، فما دام الغرض مضمونا لأن المكلف نافر عنه بطبعه لا يلزم من الترخيص المطلق في الطرفين نقض الغرض بالإجمال. بل نقول يلزم منه، إذ مجرد نفوره وعدم اقباله بطبعه عليه لا يعني ان الغرض مضمون ومصون ما دام امرا ممكناً. والشاهد على امكان ذلك صحة الأمر بالاحتياط بأن يقول له المولى احتط بأن تساور اللحم الذي بين يدي السلطان، فإن الاحتياط يرى صحيحاً عرفا ولا استهجان فيه، فإذا صح الاحتياط مع انه نافر عنه بطبعه، صح التأمين عن وجوب الاحتياط بدليل الأصل العملي الترخيصي.
المحتمل الثاني: ان يكون جريان الأصل في كل منهما مشروطاً بعدم ارادته للآخر، أو عزله على ترخص الاخر فهو مرخص في ارتكاب المقبول إذا كان غير مقبل على المرفوض أو عازما على تركه وبالتالي يكون الترخيص ترخيصا مشروطا، انت مرخص لك في ظرف انك تارك للآخر أو عازم على تركه، لا مطلقاً. فقد يقال: بناء على هذا يقال: لا يقع بعد الجمع بين الترخيصين المخالفة القطعية أو نقض للغرض المعلوم بالإجمال.
ولكن الجواب: إذا كان الترخيص في ارتكاب المقبول منوطاً بأن لا يرغب في الثاني أو يرغب في عدمه، فهو الآن غير راغب في الثاني أو يغرب في عدمه، فهو الآن لا يرغب في الثاني أو عازم على عدمه، فأكل اللحم الذي بين يديه ثم وسوس له الشيطان واقدم على الثاني، فلا اشكال ان اجراء الترخيص في الثاني بعد ارتكابه الأول ترخيص في المخالفة القطعية ونقض، وإن لم يأت بالثاني، فإن الترخيص بعد ارتكاب الاول لا إشكال أنه ترخيص في المخالفة القطعية ونقض للغرض المعلوم بالاجمال، وإن لم يرتكب الثاني لصارف صرفه.
المحتمل الثالث: ان نقول: ان جريان الأصل في كل من الطرفين منوط بدخوله في محل الابتلاء، كأنه قال: مرخص لك اكل ما بين يديك إذا دخل في محل الابتلاء، ومرخص لك اكل ما تحت يد السلطان إذا دخل في محل الابتلاء، ومرخص لك أكل ما تحت يد السلطان إذا دخل في محل الابتلاء. فقد يقال حينئذ: لا بأس: لأن الثاني لم ينقلب عما هو عليه، هو الآن خارج عن محل البحث. فالترخيص فيه ان دخل في محل الابتلاء نفس هذا التعليق غير ضائر لأنه بالفعل خارج عن محل الابتلاء فلا ترخيص، إذ الترخيص المشروط عدم عند عدم شرطه، فالطرف المقبول هو مرخص فيه، لأن الشرط وهو الدخول في محل الابتلاء فعلي، واما الطرف المرفوض فليس مرخصا به بالفعل، لأنه معقل على دخوله محل الابتلاء وليس بداخل. فما دام أحد الترخيصين غير فعلي لعدم فعلية شرطه، إذاً الترخيص في الاول يجري بلا معارض وينحل بذلك العلم الاجمالي.
ولكن يلاحظ على هذا المحتمل:
أنه وان ارتفع به التعارض فلا يلزم من الترخيصين تعارض، لأنه لا يلزم من الترخيصين نقض الغرض ما دام الترخيص الثاني غير فعلي، ولكن هناك مشكلة أخرى، وهي: أن هذا التقييد غير معقول البتة، فإن هذا القيد اما ان يرجع الى المتعلق واما ان يرجع الى المجعول، واما ان يرجع الى الجعل، وفي جميع الحالات هو غير معقول.
اما رجوعه الى المتعلق، فالمتعلق هو الاكل، لأن الترخيص في الاكل، فنقول: الترخيص مطلق، لكن المرخص فيه وهو الأكل مقيد، أي ان المرخص فيه الاكل المقيد بالدخول في محل الابتلاء، فيقال: بأن هذا صفصطة. لأنه الاكل لابد ان يكون داخل في محل الابتلاء، يعني كل شيء بعد وجوده سوف يكون داخلا في محل الابتلاء. ولا يتصور في الشيء بعد وجوده ان ينقسم الى ما يدخل في محل الابتلاء وما لا يدخل. فإذا كان المرخص فيه وجود الاكل إن دخل في محل الابتلاء فهو مما لا معنى له لأن وجود الاكل لا محالة سوف يكو مساوقا للدخول في محل الابتلاء. فالتقييد مستدرك.
وإن أرجعنا التقييد الى الجعل نفسه، يعني عملية الجعل، فكأننا قلنا: صدور هذا الجعل من المولى وهو جعل الترخيص صدوره معلق على ان يدخل لحم السلطان في محل الابتلاء، وهذا معناه ان الجعل لا يصدر من المولى، لا يصدر الا إذا دخل لحم السلطان في محل ابتلاءك وهو مما لا معنى له، فإن الجعول الشرعية تكليفية أو ترخيصية صادرة منذ الأزل لا أنها غير صادرة برهة من الزمن ويكون صدورها معلقة على ابتلاء المكلف.
وإن أرجعنا التقييد الى المجعول: أي ان الجعل صدر مطلقا ومتعلق الجعل ايضا مطلقا، ألا ان المجعول بهذا الجعل وهو الترخيص لا يكون فعلياً في حقك الا إذا دخل في محل الابتلاء، فالدخول في محل الابتلاء قيد في فعلية الترخيص، فلازم ذلك ان لو دخل كلاهما في محل الابتلاء، اللحم الذي بين يديك واللحم الذي بين يدي السلطان صار الترخيص في كليهما فعلي، وفعلية الترخيص حينئذٍ نقض للغرض المعلوم بالإجمال، لأن كل من الترخيصين فعلي بفعلية شرطه، فالجمع بين الترخيصين مع العلم الاجمالي بغصبية أحد الطرفين نقض للغرض المعلوم.
المحتمل الرابع: أن نقول: بأن الترخيص في الطرف المقبول منوط بخروج الثاني عن محل الابتلاء لا دخوله في محل الابتلاء، فالشرط هو الخروج، فلك ان تأكل اللحم الذي بين يديك بشرط خروج اللحم الثاني عن محل ابتلاءك فجريان الترخيص في المقبول مشروط بخروج المرفوض عن محل الابتلاء وهذا كاف لفعر المشكلة وانحلال العلم الاجمالي.
والوجه في ذلك: انه إذا كان الترخيص في أحد الطرفين منوطاً بخروج الآخر عن محل الابتلاء، اذاً فالجمع بين الترخيصين شرعاً ليس نقضاً للغرض المعلوم بالاجمال، لانهما لن يجتمعا في الفعلية، فإن الشارع يقول: مرّخص لك في الاول إن خرج الثاني عن محل الابتلاء، ومتى ما خرج الثاني عن محل الابتلاء فإنك لن تساوره.
إذاً فالنتيجة: الجمع بين الترخيصين، بأن نقول: الترخيص الأول مشروط بخروج الثاني عن محل الابتلاء والترخيص في الثاني مطلق، فإن الجمع بين هذين الترخيصين لا يؤدي الى الوقوع في المخالفة القطعية، لأنه مضمون عدم الوقوع فيه ما دام لا يرخص لك في الاول حتى يخرج الثاني عن محل الابتلاء. فبذلك ينحل العلم الاجمالي حكماً.
ولكن يلاحظ على هذا الوجه بالتقريب الذي ذكرناه:
أنه تبقى المشكلة وهي مشكلة المناقضة العقلائية بين الترخيص وبين الغرض الالزامي المعلوم بالاجمال، فإذا افترضنا ان المكلف اجرى البراءة في اللحم المقبول، لأن اللحم الثاني خارج عن محل ابتلاءه، سواء كان اكله للحلم المقبول بعذر كما لو كان بانيا على ترك الثاني، أو بدون عذر، ثم بعد ان ارتكب الاول وأكل اللحم الذي بين يديه بدا له ان يرتكب الثاني، ونية ارتكاب الثاني لا يخرج الثاني عن كونه خارجا عن محل الابتلاء. لأن معنى خروجه عن محل الابتلاء انه ليس له داع نوعي أو شخصي نحوه، وهذا ما زال موجودا ولكن، مجرد كون الثاني خارجا عن محل الابتلاء لم يحل المشكلة لأن نفس الترخيص فيه حتى لو لم يركبه بعد ارتكاب الثاني فإن نفس الترخيص في الثاني حتى لو لم يتركبه بعد ارتكاب الاول جمع بين الترخيصين، والجمع بين الترخيصين مناقض للغرض الالزامي المعلوم بالإجمال. فإن العقلاء يقولون: الترخيص في هذين الطرفين حتى لو لم تأت بالثاني، هذا نقض للغرض المعلوم بالاجمال. يقبح من المولى أن يضحي بغرضه اللزومي، فالقبح في نفس الترخيص لا في عمل المكلف، سواء عمل المكلف أو لم يعمل. افترضوا أن أنسانا قال لا ارتكب اطراف العمل الاجمالي ابداً، حتى لو قال المكلف ذلك، والمولى يعلم ان المكلف لم يقتحم اطراف العلم الاجمالي، مع ذلك صدور الترخيص من المولى في الطرفين تضييع منه في الغرض اللزومي وهو قبيح. إذاً النقض العقلائي حاصل كما ان قبح الترخيص في المخالفة القطعية حاصل.
فتخلّص: أن دعوى انحلال العلم الاجمالي حقيقة أو حكماً بجريان الأصل بأحد الطرفين دون معارض فيما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن الابتلاء اما لعدم القدرة عليه عادة كما في الصورة الثانية، أو لعدم الداعي اليه نوعا أو شخصا كما في الصورة الثالثة. دعوى الانحلال غير تامة.
إلا على مبنانا: حيث أننا نرى الانحلال الحكمي بمعنى جريان الأصل في أحد الطرفين لا بعينه إذا لم تكن الشبهة موضوعية، هذا تام حتى في الثاني فضلاً عن القسم الثالث. فما اشتهر في كتب الاصوليين وكتب الرسائل العملية من انه: إذا خرج أحد طرفي العلم الإجمالي عن محل الابتلاء انحل العلم الاجمالي ولم يكن منجزاً محل بحث وتأمل.
إلا أن يقال: بأنه إذا علم المكلف أنه لم يرتكب الطرف الآخر، سواء لعدم القدرة عليه عادة أو لعدم الداعي اليه أو لوجود الصارف عنه لأي علة هو مطمأن لعدم ارتكاب الطرف الاخر، فيقال حينئذ: من اطمأن بعدم ارتكاب الطرف الآخر كان أمره بالاحتياط فيه بلا وجه، نظير ما ذكروه في بحث حجية القطع، بأن المكلف إذا قطع بالترخيص فمخاطبته بالإلزام لغو، لأنه قاطع بالترخيص، فمن قطع بأنه لم يرتكب الطرف الآخر فخطابه بالاحتياط من جهته لغو مستهجن، فإذا كان أمره بالاحتياط لغوا مستهجنا فجريان الأصل العملي غير تام، لأن الغرض من جريان الأصل العملي رفع وجوب الاحتياط، وأمره بالاحتياط لغو لأنه قاطع بعدم الارتكاب، فلا يجري الأصل العملي فيه ويجري في الطرف الذي بين يديه بلا معارض. فتأمل.
ويأتي البحث في حالة الشك: إذا شك أن أحد الطرفين داخل في محل ابتلاءه على نحو الشبهة المفهومية أو المصداقية. فما هو مقتضى الصناعة. يأتي الكلام عنه السبت.