الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/03/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

الصورة الثانية: ما إذا كان أحد الطرفين غير مقدور عادةً، كما إذا علم إجمالاً إما بأن اللحم الذي بين يديه مغصوب أو اللحم الذي بين يدي جاره، وكان تناول أكل لحم الجار حرجاً عليه، فغير مقدور له عادةً.
وهنا وقع البحث: تارة: بالانحلال الحقيقي، وأخرى: بالانحلال الحكمي.
أما البحث في النقطة الأولى: وهي: هل أن العلم الإجمالي بغصبية أحد اللحمين مع عدم القدرة عادة على الطرف الآخر، منحل حقيقة أم لا؟. ويبتني الانحلال الحقيقي على أن القدرة على المعصية هل هي شرط في صحة التكليف أم لا؟. فهل يعتبر في صحة التكليف القدرة العادية على المعصية؟ أم لا؟.
لا إشكال في أنه يعتبر في صحة التكليف القدرة العقلية على المعصية، فمن كان عاجزاً عن المعصية عقلاً فلا يصح تكليفه، وانما الكلام في انه هل تعتبر القدرة العادية على المعصية في صحة التكليف اي بأن لا تكون المعصية حرجا ومشقة عليه أم لا؟.
فهنا أفاد العلمان: النائيني والعراقي: باعتبار القدرة العادية على المعصية في صحة التكليف. مع فرق، فقال المحقق النائيني بحسب ما في «أجود التقريرات: ج2، ص250»: ان هناك فرقا بين الأمر والنهي، ففي النهي تعتبر القدرة العادية على المعصية، وفي الأمر لا يعتبر. والسر في الفرق بينهما:
ان الغرض من النهي الترك، فإذا كان المكلف تاركاً بطبعه لأن المعصية حرج عليه فهو تارك، كما لو فرضنا أن المكلف طالب علم، طالب العلم لا يشرب الخمر ولا يزني. فحينئذٍ إذا كانت المعصية غير مقدورة له عادةً بمعنى أن مخالفة النهي حرج عليه، فهو بطبعه تارك لشرب الخمر، أو للزنا. فبما أنه بطبعه تارك والغرض من النهي هو الترك، فالغرض متحقق، فلأجل ذلك يكون نهيه عن الزنا مستهجناً لأنه في حد ذاته تارك للمعصية، بخلاف الامر، فلا يعتبر في صحته القدرة على المعصية عادةً، فمثلاً: الانسان مأمور بالنفقة على اولاده: وهو غير قادر عادة على ترك النفقة، لكن مع ذلك: يصح أمره بالنفقة، ولا يكون الأمر مستهجناً والسر في ذلك:
ان الغرض من الأمر الايجاد، والايجاد ليس طبعيا بل متجدد، فبما ان الإيجاد ليس طبعياً مثل الترك بل متجدد صح امره بالإيجاد وان كان غير قادر عادة على المعصية.
إذاً الأمر يكفي في صحته القدرة العقلية على المعصية، والنهي لا يكفي في صحته القدرة العقلية على المعصية، بل لابد ان يكون قادرا عادة ايضاً وإلا كان النهي مستهجناً.
فبناء على ذلك: إذا علم المكلف اجمالاً بالنهي لأنه يعلم اجمالا اما بغصبية ما تحت يده أو بغصبية ما تحت يد جاره، فهو يعلم اجمالا بحرمة احدهما، ولكن هذه الحرمة غير متنجزة، بل منحلة عقلا، لأنه لا حرمة في تناول ما تحت يد جاره، لأنه غير قادر عادة على المعصية، فبما انه غير قادر عادة على المعصية بأكل ما تحت يد جاره إذا لا حرمة في حقه بلحاظ ما تحت يده، وبالنسبة إلى ما تحت يده شك بدوي فتجري البراءة عن الحرمة. فذهب النائيني إلى الانحلال الحقيقي إذا كان احد الطرفين غير مقدور عادة.
والمحقق العراقي أيّد النائيني ولكن قال: لا فرق: قال في «نهاية الافكار: ج3، ص338» لا فرق بين الأمر والنهي، فإنه يعتبر في كليهما القدرة العادية على المعصية مضافاً للقدرة العقلية. فكما ان النهي عما انت تارك له بطبعك مستهجن كذلك الأمر بما انت فاعل له بطبعك مستهجن. فلا فرق بين كليهما من هذه الجهة.
إلا إذا علّق على القدرة بأن قال للفقير: إن قدرت على الزواج من بنت السلطان فتزوج بها أو فلا تتزوج بها. فإنه إذا علّق الأمر أو النهي على القدرة كان متحسناً وإلا كان مستهجناً. بل بما يصعب مقدماته يكون مستهجناً حتى مع التعليق على القدرة، بأن يقول للغبي: إذا صرت مجتهداً على فرض محال فاحتط في الفتوى.
ولكن يلاحظ على ما افاده العلمان «قده»:
أما بالنسبة لما ذكر النائيني، ففيه: أن المصحح للتكليف أمراً أو نهياً، أما عدم المتعلق _بمعنى انه إذا كان متعلقه حاصلاً فهو غير صحيح_ فإذا كان المصحح للتكليف عدم المتعلق فلا فرق بين الأمر والنهي، فلا يصح النهي عمّا انت تارك له ولا يصح الأمر بما انت فاعل له. وإمّا ان المصحح للتكليف الاستناد ولا يكفي تحقق المتعلق، فيقال: صحيح انت تارك لكن يعتبر ان يكون تركك مستنداً إلى تكليف المولى فالمدار على الاستناد.
فالمدار على الاستناد، إذا لا فرق بين الأمر والنهي، فكما لو كنت فاعلا بطبعك يصح أمرك لأنه يعتبر استنادك في الفعل إلى الامر، كذلك إذا كنت تاركا بطبعك يصح نهيك لأن المصحح ان تستند في تركك إلى النهي. إذا لا نرى فرقاً بين الأمر والنهي، فإما ان يقول: المصحح عدم المتعلق، ففي كليهما إذا فرض المتعلق حاصلاً لا يصح الأمر والنهي، وإما أن المصحح الاستناد في مقام العمل إلى التكليف، ففي كليهما يصح التكليف.
وأمّا ما ذكره المحقق العراقي «قده» فجوابه واضح:
فإن مجرد عدم القدرة العادية على المعصية لا يعني ان التكليف مستهجن، إذ يكفي في صحته حفظ المكلف عن معرضية المعصية، فإنه وان كانت المعصية حرج عليه لكنه في معرض ان يقع فيها ولو لدواعٍ متعددة فيكفي في تكليفه امراً أو نهياً صونه عن هذه المعرضية.
فتخلص في ذلك:
ان الانحلال الحقيقي: بمعنى: ان لا حرمة فيما تحت يد الجار وشك بدوي فيما تحت يده مبني على دخالة القدرة العادية على المعصية في صحة التكليف، فإذا قلنا لا يعتبر في صحة التكليف القدرة العادية على المعصية بل يكفي القدرة العقلية، إذا هو يعلم إجمالاً بتكليف فعلي، كان المغصوب ما تحت يه أو كان المغصوب ما تحت يده أو كان المغصوب ما تحت يد جاره، فإنه وان لم يقدر عادة ما تحت يد جاره الا ان هذا ليس شرطاً في صحة التكليف. هذا في النقطة الاولى وهي دعوى الانحلال الحقيقي.
ولكن إذا بنينا ان لا انحلال حقيقي وان التكليف فعلي، فهل يمكن ان نبني على الانحلال الحكمي اي جريان الأصل فيما تحت يده بلا معارض أم لا؟.
وهذه هي النقطة الثانية: وقد ذكر في كلمات الاعلام وجوه لإثبات دعوى الانحلال الحكمي:
الوجه الأول: ما أشار اليه تقريرات السيد الشهيد «قده»: من أن المانع من جريان الاصل الترخيصي في أطراف العلم الاجمالي. هو ارتكاز المناقضة، بمعنى أن جريان الاصل في كلا الطرفين نقض للغرض المعلوم بالاجمالي. فإذا علم اجمالا اما بغصبية ما تحت يده أو غصبية ما تحت يد جاره فجريان الطهارة في كلا الطرفين مناقض للغرض الالزامي المعلوم بالإجمال. _هذا هو المانع من جريان الاصول_.
وهذا المانع لا يحرز فيما إذا كان الغرض مضموناً، كما إذا كان المكلف غير قادر على ارتكاب كلا الطرفين، اما غير قادر عقلا أو غير قادر عادة. فإذا علم اجمالا اما بغصبية ما تحت يده أو بغصبية ما تحت يد السلطان فحتى لو قلنا له: أجري البراءة في كلا الطرفين، فإن جريانها في كلا الطرفين ليس نقضاً للغرض الالزامي المعلوم لأن هذا الغرض محفوظ ومضمون لعدم قدرة المكلف عدم مساورة كلا الطرفين عقلاً أو عادةً.
ولكن يلاحظ على ذلك: اما ان يلتزم بالاطلاق الاحوالي بأن يقال له: تجري البراءة عن الحرمة وان اكلت الطرف الآخر، فتجري عما تحت يدك وان تناولت ما تحت يد السلطان، وتجري البراءة عما تحت يد السلطان وان تناولت ما تحت يدك.
فلا إشكال بأن الإطلاق الأحوالي لدليل الاصل الترخيصي ترخيص في المعصية، والمفروض انه قادر على المعصية وان كان حرجا عليه، لكنه قادر عليها عقلاً. فالجمع بين الترخيصين على نحو الإطلاق الاحولاي ترخيص في المعصية وهو قبيح.
وأما إذا لم نقل بالاطلاق الاحوالي _قلنا مقيد ولا نلتزم بالاطلاق_، اي تجري البراءة عن حرمة ما تحت يدك إن أردت ترك الآخر لا مطلقاً، وتجري البراءة عمّا تحت يد السلطان ان عزمت ترك عما تحت يدك: فجريان البراءة في كليهما مشروط وليس مطلقاً، فلا نلتزم بالاطلاق الأحوالي.
فنحن على مبنانا: وقد ذكرنا هذا في العام الماضي:
نلتزم نحن بالاطلاق الافرادي لأدلة الأصول الترخيصية، فيما إذا كان كلا الطرفين مقدوراً عقلاً وعادةً فضلاً عما إذا لم يكن احدهما مقدوراً عادةً أو كليهما. حتى في المقدور عادة نحن نقول: لا مانع من إجراء الاصل في أحد الطرفين بمقتضى الاطلاق الافرادي وإن انكسر الإطلاق الأحوالي.
ولكن على مبنى القوم: ومنهم سيدنا «قده» وتلامذته: من أن ادلة الاصول العملية لا تشمل اطراف العلم الاجمال لا باطلاقها الاحوالي لأنه ترخيص في المعصية، ولا باطلاقها الافرادي بمعنى الترخيص في أحدهما لا في كليهما. لانهم لا اطلاق عندهم كذلك، اي قوله: «رفع عن امتي ما لا يعلمون» ليس فيه اطلاق للترخيص في أحد الطرفين. فبناء على مبانيهم هذا الشق أيضاً ساقط.
وأما إذا قلنا الاشتراط في احدهما والاطلاق في الاخر: بأن يقول: تجري البراءة عما تحت يدك إن عزمت على ترك الآخر، وتجري البراءة عن ترك الآخر مطلقاً. فبالنسبة إلى ما تحت يدك مشروط وبالنسبة لما تحت الآخر مطلق. فالكلام الكلام. فإنه إذا أجرى البراءة عما تحت يده عازما على ترك الآخر وأكل، ثم تجدد له أن يأكل الآخر، فتجري البراءة عما يد الآخر، فإن هذا ترخيص في المعصية.
إذاً فبلحاظ جميع الصور، اي نقول: دليل الاصل يشمل الطرفين على نحو الاطلاق الأحوالي، أو دليل الأصل يشمل الطرفين على نحو الاطلاق الافرادي، أو دليل الاصل يشمل أحدهما مشروطاً والاخر مطلقاً، كل ذلك بنظر العرف نقض للغرض اللزومي المعلوم بالاجمال، ما دام قادراً على المعصية عقلاً.
فهذا الوجه لبيان الانحلال الحكمي غير تام.
الوجه الثاني: هو النقاش في دليل البراءة، حديث الرفع «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» بأن يقال: حديث الرفع وارد مورد الامتنان، فمقتضى وروده مورد الامتنان اختصاصه فيما إذا كان المرفوع ثقيلاً، وأمّا إذا لم يكن في المرفوع اي ثقل فلا يدل حديث الرفع على رفعه. وحينئذٍ إذا كان التكليف بما تحت يده هذا تكليف عليه فتجري في حقه البراءة. أما إذا كان التكليف بما تحت يد جاره فليس ثقيلا عليه. لأنه من الاصل تارك لما تحت يد جاره، فحرمة تناول ما تحت يد جاره من الاصل ليس ثقيلاً لأنه تارك له بطبعه، لذلك لا يشمله حديث الرفع، غذاً تجري البرءة عما تحت يده بلا معارض. لأنها لا تجري عما تحت يد جاره، لأن ذلك فرع ثقله ولا ثقل فيه.
ولكن هذا الكلام غير تام، والسر في ذلك:
أنه يكفي في شمول حديث الرفع: أن يكون المرفوع ثقيلا ولو بثقل التشريع وان لم يكن في الخارج ثقيلا عليه، فإن من الواضح أن حديث الرفع يتصدى لرفع إيجاب الاحتياط، إذ معنى البراءة عدم ايجاب الاحتياط، وايجاب الاحتياط حتى فيما هو تارك له بطبعه يكون ثقيلاً تشريعاً، بأن يقول الشارع: احتط عن الوقوع فيه وإن كنت تاركاً له بطبعك لكنك قادر على اقتحامه، فاحذر ان تقع فيه، فإن إيجاب الاحتياط ثقيل ثقلاً تشريعيا وهذا كاف في شمول حديث الرفع له.