الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/02/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

وصل الكلام إلى: ما إذا اضطر المكلّف لأحد الطرفين لا بعينه، ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الماءين وهو مضطر لشرب أحدهما، وقد أفاد صاحب الكفاية «قده»: إنّ العلم الإجمالي غير منجز، فإنّ المكلف حيث إنه مضطر لارتكاب أحدهما فأيّ فرد يختاره لدفع اضطراره فهو حلالٌ واقعاً، لكون دفع الاضطرار به، وبالتالي: فهو يشك في حرمة الآخر، إذ لعلَّ النجس هو الذي ارتكبه لدفع اضطراره، فما دام يحتمل أنّ النجس هو الذي شربه لدفع اضطراره، إذاً فهو يشك في نجاسة الآخر، فهو يشكّ في فعلية التكليف في الآخر. فيجري البراءة.
ولكن نوقش صاحب الكفاية: تارة: بأنّ المقام من باب التوسط في التنجيز. وأخرى: بأنَّ المقام من باب التوسط في التكليف. فهنا وجهان لمناقشة صاحب الكفاية «قده»:
الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني في دورته الأولى «فوائد الأصول»: من أن المقام من باب التوسط في التنجيز، لا أنّ العلم الإجمالي غير منجز البتّة، كما ذهب إليه صاحب الكفاية. وبيان ذلك: بذكر أمور:
الأمر الأول: إنّ حديث «الرفع» وهو قوله : «رفع عن امتي ما اضطروا اليه» إنما يدل على ارتفاع الحرمة واقعاً عن المضطر اليه، والمكلف في المقام اضطر إلى الجامع لا إلى الفرد، فما يختاره لدفع اضطراره ليس هو المضطر اليه، فإذا علم بنجاسة أحد المائعين وهو مضطر لشرب أحدهما فشرب أحدهما كما لو شرب مثلا ماء ألف، فإن ماء ألف ليس هو المضطر إليه بل المضطر إليه هو الجامع. وأما تطبيق هذا الجامع على ماء ألف فهو باختياره وليس باضطراره، وبالتالي فلا موجب لارتفاع حرمة شرب ألف واقعاً. لأن ما ترتفع حرمته واقعاً ما اضطر إليه وهذا لم يضطر إليه إذ بإمكانه ان يدفع اضطراره بالآخر، فتطبيق المضطر إليه على الف اختياري وليس اضطراريا، فلا موجب لارتفاع حرمته واقعاً. إذاً ما هو نوع الترخيص الثابت في ألف الذي ارتكبه لدفع اضطراره؟.
قال: إنّ هذا الترخيص ترخيص ظاهري، وليس واقعياً، لأنه ترخيص ناشئ عن الجهل، لأنه يجهل ما هو النجس، اختار ألف لدفع اضطراره والا لو كان يعلم ما هو النجس لاختار غير النجس، فاختار النجس لدفع اضطراره لجهله بما هو النجس واقعاً. ولو علم بما هو النجس واقعاً لما اختار ألف لدفع اضطراره.
فبالنتيجة يقال: إنّ الترخيص الواقعي تعلق بما هو المضطر إليه وهو الجامع، ولكن حيث أنه يجوز له ارتكاب الجامع فيترتب على جواز ارتكاب الجامع انه مرخص له في تطبيق ذلك الجامع على إناء الف ترخيصا ظاهرياً، يعني ما دام جاهلاً بما هو النجس، فإنما يرخص له في تطبيق ما هو مضطر إليه على إناء ألف ان كان جاهلا بما هو النجس، فهذا الترخيص مقيد بالجهل، فهو ترخيص ظاهري.
الأمر الثاني: إنّ هناك توسطا في التنجيز. لأن لدينا حرمة واقعية وترخيص ظاهري، فحرمة النجس واقعاً باقية على فعليتها واطلاقها إذ ما لم يضطر إلى ما هو النجس واقعاً فحرمته باقية، اذ لا موجب لارتفاعها وهو لم يضطر إلى نفس النجس وإنّما اضطر إلى الجامع، إذاً حرمة النجس باقية واقعاً باقية حيث لم يضطر المكلف لنفس النجس، وفي نفس الوقت يجوز له ظاهراً ما دام جاهلاً أن يرفع اضطراره بأيٍّ منهما. فوجه الجمع بين بقاء الحرمة الواقعية وبين الترخيص الظاهري أن نقول بالتوسط في التنجيز، ومعنى التوسط في التنجيز: أنّ العلم الاجمالي غير منجز لوجوب الموافقة القطعية، اذ لا يجب عليه تركهما معاً، بل يجوز ارتكاب احدهما، لكنَّه منجز لحرمة المخالفة القطعية، أي لا يجوز له ارتكاب كليهما، مع انه مضطر لأحدهما. فلا يجب عليه اجتنابه معاً ولا يجوز له ارتكابهما معاً. وهذا هو معنى التوسط بالتنجيز.
هذه هي المناقشة الأولى لكلام صاحب الكفاية «قده».
المناقشة الثانية: تبتني على التوسط في التكليف، لا التوسط في التنجيز، والتوسط في التكليف له تقريبات ثلاثة:
التقريب الأول: ما أفاده المحقق النائيني «قده» في دورته الثانية في «أجود التقريرات»: ذهب إلى أن المسألة من باب التوسط في التكليف لا من باب التوسط في التنجيز. والسر في ذلك بذكر أمرين:
الأمر الأول: إن المضطر إليه وان كان هو الجامع لكن يصدق عرفاً على ما يختاره لدفع اضطراره أنه مضطر إليه.
نقول هكذا: هو مضطر لشرب ماء منهما وهو مضطر لدفع اضطراره بألف، بما يختاره، فيصدق على ما اختاره انه مضطر اليه، إذ كيف يدفع اضطراره؟ إذ لا يمكن ان يدفع اضطراره الا بشربه فإذا شربه صدق عليه أنه مضطر إليه عرفاً. إذاً ما يختاره لدفع اضطراره مصداق لعنوان المضطر اليه، فترتفع حرمته واقعاً بحديث الرفع: «رفع عن امتي ما اضطروا اليه»، ومقتضاه: أنّ ما يختاره لدفع اضطراره يكون حلالاً واقعاً إن كان هو النجس.
الأمر الثاني: إن قلت: لازم كلامكم: عدم منجزية العلم الإجمالي لو كان الاضطرار سابقاً أو مقارناً للعلم الإجمالي، سيكون الكلام الآتي منصب على صورة: ما إذا كان الاضطرار سابقا او مقارنا للعلم الاجمالي، لأنّها محط الاثر.
فيقال: تارة نفترض ان العلم الاجمالي حصل بأن حصل اجمالا بنجاسة أحد الماءين وبعد ان حصل العلم الاجمالي بعده بيوم اضطر إلى شرب احدهما، فهنا يقال: نعم العلم الاجمالي منجزاً لأنّه الاضطرار جاء متأخراً. أما لو فرضنا أنه مضطر لشرب أحد الماءين وبعد ان اضطر لشرب أحد الماءين علم اجمالاً بعد ذلك ان احدهما نجس، فالاضطرار سابق. فهنا في هذه الصورة بناء على كلام «اجود التقريرات»: من أن ما يختاره لدفع اضطراره مما ترتفع حرمته واقعاً: لا يكون العلم الاجمالي منجزاً، لأنّه إن كان النجس هو ما اختاره فليس بحرام لأجل الاضطرار، وكون النجس هو الثاني مشكوك شكّاً بدوياً من الاول، إذاً بالنتيجة: يجري البراءة عن حرمة شرب الثاني بعد شرب الأول. فلازم كلامكم: من أن الحرمة ترتفع واقعاً عمّا هو يختاره لدفع اضطراره ان لا يكون العلم الاجمالي منجزاً في هذه الصورة في صورة سبق الاضطرار على العلم.
قال السيد الخوئي «قده» في تقرير كلام المحقق النائيني «قده»: هنا لدينا علم اجمالي آخر متولد من العلم الاجمالي، وهو: العلم الاجمالي بأن احدهما نجس يتولد منه علم اجمالي بحرمة شرب ألف إلى ان يختاره او حرمة شرب باء إلى ان يختاره، لأن المفروض انه علم اجمالا بالنجس عبد الاضطرار وقبل ان يشرب، فما دامت هناك حالة وسط، اضطر لشرب احدهما ثم علم اجمالا بنجاسة احدهما ثم اختار احدهما لدفع اضطراره، فقبل اختياره احدهما لدفع اضطراره تشكل لديه علم اجمالي إما بحرمة ألف إلى ان يشربه او حرمة باء إلى أن يشربه لدفع اضطراره. فهنا: علم اجمالي بحرمة شرب أحدهما قبل أن يختاره لدفع اضطراره. ووجود هذا العلم الاجمالي منبه على التوسط في التكليف، فلا نقول ان المسألة من باب التوسط في التنجيز. لأن ما يختاره لدفع اضطراره لو كان هو النجس لارتفعت حرمته واقعاً لا ظاهراً كما يقول النائيني. وفي نفس الوقت يقول: ان كان النجس هو ما اختاره لدفع اضطراره فقد ارتفعت حرمته واقعاً لكن لا من حين الاضطرار بل من حين الارتكاب. وهذا معنى التوسط في التكليف. فلا نقول ان الحرمة قد ارتفعت من حين الاضطرار من أول الأمر، والا لكان العلم الاجمالي الحادث بعد الاضطرار غير منجز، ولا نقول بأن الحرمة لا ترتفع الا ظاهراً كما يقول النائيني بل نقول: إذا ارتكب ارتفعت حرمته واقعاً. فلا هي حرمة غير ثابتة من الأول، ولا هي حرمة مستمرة. وهذا معنى: التوسط بالتكليف.
ولكن: أولاً: ما ذكره النائيني «قده» عرفي وهو ان المضطر إليه هو الجامع وليس ما اختاره، وما اختاره أمر اخياري لدفع اضطراره وليس مضطرا إليه فكيف يكون مصداقا لعنوان للمضطر إليه كي ترتفع حرمته واقعاً، فإطلاق الحرمة باقٍ على فعليته، ومجرد أنه اختاره لدفع اضطراره هذا لا يوجب ارتفاع الحرمة واقعاً.
ثانيا: ما ذكره السيد الخوئي في اشكاله على استاذه الميرزا النائيني في «مصباح الاصول»: الحرمة انحلالية، «يحرم شرب النجس» أي شرب كل نجس، وشمول هذه الحرمة الانحلالية لهذا الماء الذي اختاره لدفع اضطراره لازمه أن تكون الحرمة معلقة على عدم اختياره، لأنّك إذا قلت ان اختاره ارتفعت الحرمة واقعا، فمعناه: ان الحرمة واقعاً معلقة على عدم اختياره، وهذا خلف الحرمة، فإن الغرض من الحرمة «الزجر»، فالمقوم لفعلية الحرمة «الزجر» فكيف يعلق الشارع الحرمة على عدم الاختيار والاختيار، فما دام المقوّم للحرمة الفعلية الزجز عن الشيء فكيف يقول الشارع: انت مزجور إن لم تختر الارتكاب. وأما إذا اخترت الارتكاب فأنت لست مزجور، فهذا خلف ما هو مقوم للحرمة الفعلية.
فلو التزمنا بما ذكر في «اجود التقريرات» من ان الحرمة ترتفع واقعاً عندما يرتكبه ويختاره لكان لازم ذلك لغوية الحرمة ونقض الغرض منها، فهذا شاهد على أن الحرمة لا ترتفع واقعاً باختيار الحرام، لدفع الاضطرار، وإنما الارتفاع ظاهري لا واقعي، أي ما دمت جاهلا بما هو الحرام واقعاً فيجوز لك دفع الاضطرار بأيٍّ منهما.
فالنتيجة: أن المقام من باب التوسط في التنجيز لا من باب التوسط في التكليف.
يأتي التقريب الثاني للتوسط في التكليف وهو ما قرّبه السيد الصدر ثم تقريب المحقق العراقي للتوسط في التكليف.