الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

36/12/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

منجزية الاصل الاجمالي.
كما أنّ عندنا علماً إجمالياً وأمارة إجمالية. فعندنا أصلٌ إجمالي أيضاً. وهو استصحاب نجاسة أحد الإناءين. كما لو كان أحد الإناءين معلوم النجاسة إجمالاً ثم مرّ ماء على الإناءين فلا ندري هل طهرهما معا أم لا؟ فنستصحب نجاسة أحدهما. فاستصحاب نجاسة أحد الإناءين أصل إجمالي.
ويقع الكلام فيه في جهات ثلاث:
الجهة الأولى: هل استصحاب نجاسة أحدهما معارضٌ مع استصحاب طهارة كليهما؟ أم لا؟
فيقال: في تصوير المعارضة: بأن استصحاب طهارة كل منهما يترتب عليه جواز تناولهما. والحكم بطهارة الملاقي لهما معاً. وبلحاظ هذين الأثرين يقع التنافي بين استصحاب نجاسة أحدهما وبين استصحاب طهارة كليهما. فإن مقتضى استصحاب نجاسة أحدهما عدم جواز تناولهما معاً. كما أنّ مقتضى استصحاب نجاسة أحدهما عدم البناء على طهارة ما لاقاهما معاً. بينما استصحاب طهارة كليهما يترتب عليه جواز تناولهما معاً وطهارة ما لاقاهما معاً. وهناك تعارض.
لكنَّ بعض الأعلام «قده» أفاد: بأن هذه المعارضة انما تتم لو لم يكن العلم الاجمالي سابقاً. يعني في وقت واحد علمنا أن احد هذين الإناءين من دون تعيين كان نجسا والآن نشك في نجاسته. فحصل يقين في نجاسة سابقة والشك في البقاء في آن واحد، ففي هذا الفرض إذا تيقنا بأن احدهما كان نجساً والآن نشك في بقاء نجاسته فحصل اليقين بالنجاسة السابقة والشك في البقاء في آن واحد. هنا يتعارض استصحاب نجاسة احدهما مع استصحاب طهارة كليهما.
أما إذا افترضنا أن اليقين بنجاسة أحدهما سابقٌ، يعني: أولا حصل لنا اليقين بنجاسة احدهما، ثم طرأ ما يوجب الشك في بقاء تلك النجاسة، فاليقين بالنجاسة ليس معاصراً للشك في البقاء بل سابق عليه، فبما أن لدينا يقينا بنجاسة أحدهما، اي علم اجمالي فقد تساقط اصالة الطهارة واستصحاب الطهارة في الجميع ببركة وجود العلم الاجمالي، فإن العلم الاجمالي بنجاسة احدهما اوجب سقوط استصحاب الطهارة في كليهما. فإذا زال هذا العلم الاجمالي وتعكزنا على استصحاب النجاسة لم تعد الاصول مرةً أخرى. فإن استصحاب الطهارة في كليهما سقط منذ وجود العلم الاجمالي. فلا يعود مرة أخرى بعد زوال العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما وتبدله باستصحاب النجاسة.
ولكن هذا غير صحيح، لأن المانع من جريان استصحاب الطهارة في كليهما يوم كان العلم الاجمالي بنجاسة احدهما موجوداً أن جريانهما معا ترخيص في المخالفة القطعية وهو قبيح، واما بعد زوال العلم الاجمالي وتبدله الى الاستصحاب، فهذا المانع ايضا قد زال بزوال العلم الاجمالي، وحينئذٍ اي مانع من جريان استصحاب الطهارة في كليهما، إذ لا يلزم من جريان استصحاب الطهارة في كليهما ترخيص في المخالفة القطعية، إذ لا يوجد قطع في البين، فلا محالة تقع المعارضة بين استصحاب طهارة كليهما واستصحاب نجاسة احدهما، والمقصود بالمعارضة التنافي في الاثر، والا الاصول لا تتعارض.
الجهة الثانية: على فرض استقرار التعارض بين الأصلين فما هو الأصل الجاري حينئذٍ؟.
الاصل الجاري حينئذٍ قاعدة الطهارة. لأن استصحاب النجاسة كان مقدّماً على قاعدة الطهارة بملاك الاخصّية، ومعنى ذلك: ليس استصحاب النجاسة اخص بحسب النسبة من قاعدة الطهارة، بل بينهما عموم من وجه، فقد تجري قاعدة الطهارة ولا يجري استصحاب النجاسة لعدم وجود يقين بنجاسة سابقة. وقد يجري استصحاب النجاسة من دون قاعدة الطهارة، وذلك فيما إذا فرض ان لقاعدة الطهارة معارضا في نفسها كأصالة الحل مثلا، إذن بينهما عموم من وجه، ولكن حيث إن استصحاب النجاسة لا يلغي أصالة الطهارة، بخلاف ما لو قدّمنا أصالة الطهارة فإنه لا يبقى وجه لاستصحاب النجاسة. إذاً يكون استصحاب النجاسة بمثابة الأخص من أصالة الطهارة. فلو لم يكن عندنا الا استصحاب النجاسة من جهة واصالة الطهارة من جهة أخرى لقدّمنا استصحاب النجاسة، فنقول: لا يجري أصالة الطهارة في كليهما لأن استصحاب النجاسة مقدّمٌ بملاك الأخصية. ولا يجري في أحدهما، لأنه ترجيح لا مرجح. لكن، إذا كان استصحاب النجاسة نفسه معارض باستصحاب الطهارة كما لو كان لكل من الماءين حالة سابقة بالطهارة، فنحن متيقنون بطهارة كل منهما ثم حصل لنا علم بنجاسة احدهما، في نفس الوقت حصل لنا شك في بقاء ذلك المعلوم. فهنا توجد حالة وهي اليقين بنجاسة احدهما مع الشك في بقاءها ويقينان بطهارة كل منهما سابقاً. لأجل ذلك استصحاب النجاسة في أحدهما معارض لاستصحاب الطهارة في كليهما فإذا تعارضا وتساقطا وصلت النوبة لأصالة الطهارة فيهما، فإنه لا مانع منها الا استصحاب النجاسة وقد سقط بالمعارضة. فيصير المورد حلالاً فيشرب كليهما ويبني على طهارة الملاقي لهما معاً، لأن استصحاب النجاسة سقط بالمعارضة لاستصحابي الطهارة في كليهما.
فتلخص ان استصحاب نجاسة أحدهما سقط بالمعارضة مع استصحابي طهارة كل منهما فوصلت النوبة لأصالة الطهارة فيهما معاً.
الجهة الثالثة: لا نسلّم المعارضة بين استصحاب نجاسة أحدهما واستصحاب كلٍّ منهما، بل استصحاب نجاسة كل منهما مقدم، وذلك لوجوه:
الوجه الأول: يقال: بناءً على أن حقيقة الاستصحاب - المجعول في باب الاستصحاب - هو التعبد ببقاء اليقين السابق، فمعنى: «لا تنقض اليقين بالشك» يعني أتعبد ببقاء يقينك وبكونك متيقنا بقاءً. فبناء على هذا المعنى، دليل استصحاب النجاسة حاكم على دليلي استصحاب الطهارة، لأن استصحاب الطهارة مقيد بعدم الناقض والناقض هو العلم بالنجاسة، فاستصحاب الطهارة تقيد موضوعه بعدم العلم بالنجاسة واستصحاب النجاسة علم لأن معنى الاستصحاب التعبد ببقاء اليقين، فلا محالة استصحاب النجاسة حاكم على استصحاب الطهارة في مجموعهما.
ولكن الجواب: أنّ الامر يمكن تصويره بالعكس، فيقال: إن استصحاب النجاسة من الاستصحاب ايضا والاستصحاب مقيد موضوعه بعدم الناقض، حيث قال: «لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين مثله». وحينئذٍ فكما أنّ استصحاب النجاسة رافع لاستصحابي الطهارة لأنه يقين تعبداً، فإن استصحاب الطهارة رافعٌ لكليهما في استصحاب النجاسة في احدهما لأنه يقين بطهارة كليهما. فالترافع من الجهتين معاً. فهذا الوجه لا يصلح لتقديم استصحاب النجاسة في أحدهما على استصحاب الطهارة في كليهما. يأتي الكلام في الوجوه البقية.