الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

36/12/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

الوجه الأخير: من وجوه تقدم الإمارة على الإجمالية على جريان الأصل الترخيصي في الأطراف: أن ذلك هو مقتضى جعل الإمارة علماً، وبيان ذلك بذكر تقريبين:
التقريب الأول: بأن دليل جريان الأصل مقيّدٌ بمقيدٍ لفظيٍ على أن لا يجري الأصل في مورد يستلزم جريانه المخالفة القطعية للعلم. والمقيّد اللفظي هو: موثقة سماعة: «سألته عن إناءين وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو؟ قال: يهريقهما ويتيمم».
فإن ظاهر الموثقة: ان اصالة الطهارة لا تجري في مورد يكون جريانها مسلتزما للمخالفة القطعية للعلم. فلذلك قال: «يهريقهما ويتيمم» ولم يجر اصالة الطهارة في اي منهما.
فبما أنّ موثقة سماعة قيّدت دليل جريان الأصل بأن لا يكون مصادما للعلم، والإمارة علم بمقتضى دليل حجية الامارة، فالنتيجة: أن الامارة تقوم مقام العلم الإجمالي في منع جريان الاصل.
فلو فرضنا: أن ثقة أخبرنا بأن احد هذين الإناءين نجس ولكن لا يستطيع تعيينه، فإن هذه الامارة بمقتضى كونها علما، تقوم مقام العلم الاجمالي، فكما أن العلم الاجمالي مانع من جريان دليل الأصل في الاطراف ببركة موثقة سماعة فكذلك الامارة الاجمالية لكونها علماً.
ولكننا اشكلنا على هذا الاستدلال في بحوث منجزية العلم الاجمالي: بأنه على فرض تمامية دلالة الرواية فغايتها التقييد في الشبهة الموضوعية، باعتبار ان موردها شبهة موضوعية، والشبهة الموضوعية تنجز فيها حكم فعلي وهو «اجتنب النجس»، فلا وجه للتعميم للشبهات الحكمية. مثلاً: إذا اخبرنا المعلّى: بأنني سمعت من الصادق احد الامرين: «من افطر في رمضان بعذر فعليه القضاء أو الفدية، الترديد مني». فهو اخبرنا بأن الواجب احدهما، فهنا: حيث ان الشبهة حكمية فالحكم نفسه مجهول الحدود لا ان الحكم معلوم الحدود لكن الشبهة في الموضوع. فما دلّ على عدم جريان الأصل في الشبهة الموضوعية للعلم لا يسري لموارد الشبهة الحكمية.
التقريب الثاني: إنّ دليل الأصل كأصالة الطهارة، والحل، والبراءة، مقيد بمقيّد لبّي - لا بمقيد لفظي كالسابق - وهو: ان لا يلزم من جريان الأصل المخالفة القطعية، فإن هذا التقييد مما قام عليه المرتكز العقلائي. فإن المرتكز العقلائي يقول: لا يشمل دليل الأصل مورداً يترتب عليه مصادمة العلم. فببركة هذا المقيد اللبي نقول: لا يشمل دليل الأصل مورداً فيه أمارة، لأن الامارة علم.
ولكن، هناك نقطة لابد من التنبه لها، وهي: فرق بين التقيد بعدم العنوان، والتقيد بعدم المعنون. وقد وقع الخلط في كثير من الفروع والمسائل بين هاتين النقطتين، لذلك سنذكر عدة فروع ومسائل ترتبط بهذه النقطة:
1/ ذهب المحقق العراقي «قده» وتبعه بعض اعلام قم، في قوله عزَّ وجلَّ: «اوفوا بالعقود» بأن موضوعها «العقد الصحيح» اي: اوفوا بالعقد الصحيح، إذ لا يحتمل ان الشارع يوجب الوفاء بالعقد الفاسد، فلا محالة موضوع العقد الصحيح. فلو شككنا - على نحو الشبهة الموضوعية - في صحة عقد لم يجز التمسك بالآية. مثلا: إذا شككنا في أن عقد التأمين على الحياة أو على الصحة، هل هو عقد صحيح مشروع أم لا؟ فلا يجوز لنا ان نقول: يجب الوفاء به بمقتضى قوله: «اوفوا بالعقود» لأن موضوعها الصحيح، والمفروض انه مشكوك الصحة، فالتمسك بالدليل فيه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية للموضوع.
والجواب: الذي نعلمه أن «اوفوا بالعقود» لا يشمل العقد الفاسد، ولكن هل لأنه مقيد بعنوان الصحيح لذلك لا يشمل العقد الفاسد، أم انه مقيد بعنوان آخر لا ينبطق على العقد الفاسد؟ هنا وقع الاشتباه، فالقطع بأن «اوفوا بالعقود» لا يشمل العقد الفاسد شيء، والاستدلال بذلك على انه مقيد بالعنوان الصحيح شيء آخر. خروج المعنون لا يعني التقيد بالعنوان، لعل أن القيد في العقود ”ما نصّ الشارع على فساده“ لا عنوان الصحيح، ف «أوفوا بالعقود» عامّة إلا ما اخرجه الشارع كالربا، والغرر، والمنابذة والملامسة وانحاء ذلك من البيوع التي حكم الشارع بفسادها. فلعلَّ ما هو الموضوع هو: اوفوا بكل عقد لم يرد فيه دليل مخصص. لا ان موضوع الآية: اوفوا بالعقد الصحيح، كي لا يصح التمسك بها عند الشك في الصحة.
2/ باب «الأمر والنهي عن المنكر»، ذكر الفقهاء: بأنّ دليل وجوب الامر بالمعروف لا يشمل فرض عدم احتمال التأثير، فإذا لم نحتمل تأثير الامر بالمعروف في شخص فنحن نعلم ان دليل الامر بالمعروف لا يشمله. لذلك بنى بعض الفقهاء ان نفس دليل الامر بالمعروف اخذ في موضوعه احتمال التأثير، لأنه لا يشمل مورداً لا يحتمل فيه التأثير، فموضوع الدليل قيّد باحتمال التأثير. لذلك قال: لو شككنا مع وجود أمارة عقلائية على عدم التأثير، فالتمسك بدليل وجوب الامر بالمعروف تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية.
والكلام هو الكلام فإن عدم شمول المعنون لا يعني التقيد بالعنوان، فنقول: دليل وجوب الأمر بالمعروف لا يشمل من لا يحتمل تأثره، لكن هل ان الموضوع قيد بذلك أو لأن الموضوع قيّد بعدم اللغوية لا بعنوان احتمال التاثير، فإن دليل الامر بالمعروف مطلق الا ان يكون الامر لغوا، لا انه قيد العنوان باحتمال التاثير، ولذلك: لو قامت امارة شرعية على عدم التأثير، بأن اخبرنا ثقة بأن هذا الشخص لايتأثر، مع ذلك دليل الامر بالمعروف يشمل المورد، لانه لم يقيَّد باحتمال التاثير كي نجري البراءة في هذا العنوان. وإنما قيد بأن لا يكون لغواً، والامر بالمعروف مع قيام امارة على عدم التاثير ليس لغوا. فمقتضى اطلاق الدليل: الشمول للمورد.
3/ ذهب سيدنا وشيخنا الأستاذ «قدس سرهما»: إلى أنّ الاستصحاب علم وامارة ومع ذلك قالا بأن الامارة تقدم على الاستصحاب. فاي امارة من خبر ثقة أو شهرة أو اجماع أو اقرار يقدم على الاستصحاب، فما هو الوجه في ذلك؟ إذا كانا كلاهما امارة وعلما تعبدياً؟
افاد شيخنا الاستاذ «قده» توجيها للمطلب: بأن ما ذكره صاحب الفصول وذكره الشيخ الاعظم في الرسائل من ان التقيد بالشك في الامارة [موردي]. وفي الأصل ومنه الاستصحاب [موضوعي].
والمقصود بذلك: ان دليل الاستصحاب هو مقيد في نفس لسان الدليل بالشك، حيث قال: «لا تنقض اليقين بالشك»، إذن التقييد بالشك تقييد موضوعي، لانه أخذ في لسان الدليل. بينما إذا جئنا للأمارة مثلا: خبر الثقة في قوله: «العمري وابنه ثقتان فما اديا اليك عني فعني يؤديان». لم يؤخذ في لسانه الشك بينما دليل حجية الاستصحاب اخذ في لسانه الشك، لذلك نقول: دليل حجية خبر الثقة وإن كان لا يشمل فرض العلم لكن لا لأنه مقيد بالشك، بل لأن عدم شموله لفرض العلم لأجل اللغوية. حيث لا معنى لحجية خبر الثقة مع وجود العلم، لا لأنه قيد في لسان الدليل بفرض الشك، لذلك يقال: معنى عدم شموله لفرض العلم: ان تقيده بالشك موردي لا موضوعي. فلأجل ذلك نقول: إذا اجتمع خبر الثقة مع الاستصحاب، قدم خبر الثقة وان كان الاستصحاب امارة وعلما لكن لأن الاستصحاب اخذ في موضوعه الشك وخبر الثقة لم يؤخذ في موضوعه الشك. وحيث إن خبر الثقة يرفع الشك تعبّدا فهو حاكم على الاستصحاب.
فتبين بهذه الامثلة: ان هناك فرقاً بين التقيد بعدم المعنون والتقيد بالعنوان. وبنفس هذه النكتة نقول: ان عندنا دليل اصل كأصالة الطهارة، وقام المرتكز العقلائي على ان هذا الدليل لا يشمل موردا يترتب عليه المخالفة القطعية للعلم، لكن الدليل اللبي وهو المرتكز العقلائي غاية ما يقول: لا يشمل، لا انه يقول: انه مقيد لسان دليله بعدم مصادمة العلم كي نجري وراء هذا العنوان فنقول: بما ان الامارة علم اذن دليل الأصل لا يشمل مورد الامارة.
فالاستدلال على أن دليل الأصل لا يشمل مورد الأمارة لأن الامارة علم، مبني على أنّ دليل الأصل قُيّد موضوعه بعد مصادمة العلم، والحال بأن هذا التقيد لم يذكر، فإن غاية مفاد المرتكز العقلائي على ان دليل الأصل لا يشمل موارد العلم هو عدم شمول المعنون لا التقيد بالعنوان. إذن ما هو الوجه في عدم الأخذ بالاصل مع وجود الامارة؟.
يأتي الكلام عنه إن شاء الله.