الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

36/11/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ما زال الكلام في ما ذكره السيد الشهيد «قده» من الميزان في انحلال العلم الإجمالي انحلالاً حقيقياً بالعلم التفصيلي حيث أفاد أن المناط على سبب العلم. فإن سبب العلم الإجمالي تارة يكون: سبباً منحازاً لأحد الطرفين. وتارة يكون: سبباً متساوي النسبة لكل من الطرفين. فإن كان سبباً منحازاً: فلا محالة تتولد خصوصية من هذا الانحياز للمعلوم بالاجمال. فإذا رأينا حسّاً وقوع قطرة دم في أحد الإناءين فلا محالة مقتضى هذا السبب الحسي: أن يكون المعلوم بالإجمال النجاسة الناشئة عن وقوع تلك القطرة. فهذه خصوصية اتصف بها المعلوم بالإجمال.
وحينئذٍ حيث إنّ هذه الخصوصية يحتمل عدم انطباقها على المعلوم بالتفصيل، فمقتضى ذلك عدم الانحلال. وأما إذا كان السبب متساوي النسبة لكل من الطرفين، فمقتضى التساوي أن لا يكون للمعلوم بالإجمال خصوصية تأبى الانطباق على المعلوم بالتفصيل. وحينئذٍ: إذا لم يكن للمعلوم بالإجمال خصوصية تأبى الانطباق وحصل علم تفصيلي في أحد الطرفين: كما إذا افترضنا أنّ دليل حساب الاحتمالات اقتضى انه إذا كان لدى الكافر إناءان فمقتضى مرور زمن معتدٍ به ان يساور احدهما. فهذا السبب لا يعين طرفاً معيناً للمساورة، بل مقتضى العادة ان يساور احدهما، فالمعلوم بالاجمال جامع ليس له خصوصية، بل نجاسة أحدهما، فلو علمنا تفصيلاً بأننا رأينا الكافر يساور الاناء الابيض، إذا حيث إن المعلوم بالاجمال ليس له خصوصية فهو قابل للانطباق على المعلوم بالتفصيل. وحينئذٍ يقع السؤال: ما هو الوجه في انحلال المعلوم بالاجمال حقيقةً بهذا المعلوم بالتفصيل؟. وهنا أفاد السيد نكتتين لبيان الانحلال الحقيقي:
النكتة الأولى: أن يقال: مقتضى تساوي نسبة السبب لكل من الطرفين على حدٍّ سواء أن لا يكون للمعلوم بالإجمال خصوصية، فليس المعلوم بالإجمال إلا الجامع. اي نجاسة أحد الإناءين.
وبما أن المعلوم بالإجمال من حيث هو معلوم هو الجامع فقط، فلا محالة ينطبق هذا المقدار المعلوم على المعلوم بالتفصيل، لأنّ المعلوم بالتفصيل وهو نجاسة الاناء الأبيض لمساورة الكافر له مصداق حقيقي للمعلوم بالإجمال، فيحصل لنا علمٌ بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وإن كان هناك شكّ واحتمال في انطباقه على الطرف الآخر الا انه غير ضائر بالانحلال ما دام المقدار المعلوم بالاجمال من الجامع منطبقا على المعلوم بالتفصيل.
ولكن السيد الصدر منع من هذه النكتة. وافاد كما في «البحوث»: انه لا يخفى أن لدينا سببين فلدينا علمان:
السبب الأول: أن مقتضى العادة أن يساور الكافر أحد الإناءين، وهو دليل حساب الاحتمالات المقتضي للعلم بالجامع.
ولدينا سببا اخر اقتضى علما اخر وهو: اننا راينا باعيننا ان الكافر يساور الاناء الابيض، فهذه رؤية حسية انتجت علما تفصيليا بنجاسة الاناء الابيض.
وحيث إن نسبة العلم الأول للعلم الثاني نسبة اللا بشرط من حيث صدق سبب العلم الثاني وعدم صدقه، فالمعلوم الاول وهو المعلوم بالاجمال لا بشرط، بينما المعلوم الثاني قضية شرطية، والوجه في ذلك: أن الذهن بعد رؤية الكافر يساور الإناء الابيض ينتزع قضية شرطية وهي: ان كانت رؤيتي صادقة ولم تكن العين مغشوشة فإن الإناء الابيض متنجس. هذه قضية شرطية. والقضية الشرطية صادقة صدق طرفاها أم لم يصدقا، فنحن نقول: إن كانت الرؤية حقة فالإناء الابيض نجس، ولكن لاعتقادنا ان الرؤية حقة حصل لنا الاعتقاد بالنجاسة، فالاعتقاد بفعلية الجزاء للاعتقاد بفعلية الشرط، وهذا لا يخرج القضية عن كونها شرطية. بينما إذا جئنا للمعلوم بالاجمال لا في نفسه بل بالنسبة للمعلوم بالتفصيل وإلا فحتى المعلوم بالاجمال بلحاظ سببه يرجع إلى قضية شرطية، فإن سببه انه:
مقتضى العادة مساورة الكافر لأحد الإناءين، فإذا كان هذا المقتضى حقاً تنجز أحدهما فهي ايضا قضية شرطية. الا اننا نلاحظ نسبة المعلوم بالاجمال إلى المعلوم بالتفصيل، فنقول: هي نسبة اللا بشرط إلى البشرط، وذلك: لان المعلوم بالاجمال وهو: نجاسة احد الإناءين بسبب مساورة الكافر لأحدهما هذه النجاسة صادقة صدقت النجاسة المعلومة تفصيلا أم لم تصدق. اي سواء كانت الرؤية الحسية لمساورة الكافر للاناء الابيض حقة فهناك نجاسة في الاناء الابيض؟ أم لم تكن حقة، على اية حال اح الاناءين نجس، فالمعلوم بالاجمال من ناحية الصدق لا بشرط بالنسبة إلى صدق المعلوم بالتفصيل.
وبناءً على ذلك: فالمعلوم بالإجمال متصف بحد اطلاقي وهو اللا بشرطية. بينما المعلوم بالتفصيل بلحاظ سببه متصفٌ بحدٍ شرطي، ونتيجة اختلاف الحدين حيث إن المعلوم بالإجمال نجاسة أحد الإناءين تنجس الاناء الابيض أم لا، بينما المعلوم بالتفصيل نجاسة الاناء الابيض ان صدقت الرؤية، فلم يتطابق المعلوم بالاجمال مع المعلوم بالتفصيل، وهذه خصوصية في المعلوم بالاجمال يحتمل عدم انطباقها على المعلوم بالتفصيل، فكيف يكون المصير إلى الانحلال؟.
النكتة الثانية: هي ان السر في الانحلال زال امتناع الترجيح بلا مرجح. وبيان ذلك:
انه إذا كان سبب العلم الإجمالي متساوي النسبة لكل من الطرفين فمقتضى ذلك بالبرهان العقلي: ان تعينه في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، والترجيح بلا مرجح محالٌ، فالمقوم لبقاء المعلوم بالإجمال على اجماله وابهامه هو استحالة الترجيح بلا مرجح، فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة الاناء الابيض لاننا رأينا مساورة الكافر له كان صدق المعلوم بالاجمال على هذا المعلوم بالتفصيل ليس من باب الترجيح بلا مرجح بل للمرجح، وهو أن المقدار المعلوم بالاجمال بما هو معلوم قد حصل بالتفصيل، فهذه هي يقول السيد «قده»: النكتة في انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي.
ولكن يتوجه عليه عدّة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أن ما افاده من نقد النكتة الأولى للانحلال ليس تامّاً، والسر في ذلك: أن الميزان بحسب ما أسسه هو، في عدم انحلال العلم الاجمالي وانحلاله هو: هل للجامع المعلوم خصوصية يحتمل عدم انطباقها على المعلوم بالتفصيل أم لا؟
فاذا كانت له خصوصيه فلا انحلال والا فيقع الانحلال. وهذا الميزان متفرع على نوع السبب، فإن كان السبب منحازاً لأحد الطرفين كان الجامع ذا خصوصية، وإن كان متساوي النسبة لم تكن له خصوصية، إذا فمقتضى كون الخصوصية المانعة من الانحلال هي الخصوصية الناشئة عن نوع السبب: أن تكون الخصوصية المانعة هي الخصوصية في المعلوم لا الخصوصية في العلم. وفرق بين خصوصية في المعلوم يعني في متعلق العلم نفسه، وبين خصوصية في العلم من حيث هو علم. فالخصوصية التي تتأثر بنوع السبب من كون السبب منحازا أو متساويا خصوصية لذات المعلوم فحينئذٍ يقال: بأن هذه الخصوصية ما دام يحتمل عدم انطباقها على المعلوم بالتفصيل فلا انحلال. واما الخصوصية التي ركز عليها وهي: الحد، اي ان المعلوم بالاجمال إذا نسب للمعلوم بالتفصيل كان المعلوم بالاجمال ذا حد اطلاقي. يعني صدقه لا بشرط من حيث صدق المعلوم بالتفصيل وعدم صدقه. بينما المعلوم بالتفصيل صدقه منوط بصدق سببه، فمن الواضح ان هذه الخصوصية خصوصية للعلم لا لمتعلق العلم، فالعلم الإجمالي من حيث هو علم صدقه لا بشرط من حيث نسبته للمعلوم بالتفصيل، والمعلوم بالتفصيل من حيث هو علم صدقه مشروط بصدق سببه، وهذا لا ربط له بالخصوصية في متعلق العلم الناشئة عن نوع السبب. ولأجل ذلك: فإن هذه الخصوصية - يعني كون المعلوم بالاجمال لا بشرط من حيث الصدق - باقية، حتى لو حصل العلم التفصيلي وقلنا بالانحلال. فإنه لا يتطابق المعلوم بالاجمال مع المعلوم بالتفصيل من حيث هذا الحد بل يبقى حتى بعد الانحلال الحقيقي ان يقال: المعلوم بالاجمال من حيث صدقه لا بشرط من حيث صدق المعلوم بالتفصيل، فبلحاظ النسبة بين الحدين لا يقع تطابق بين المعلوم بالإجمال وبين المعلوم بالتفصيل حتى مع القول بالانحلال، حتى هو يقول به بالنكتة الثانية. إذا فهذه الخصوصية التي هي حد للعلم لا تصلح أن نقول عنها انها خصوصية يحتمل عدم انطباقها على المعلوم بالتفصيل. بل لا تنطبق ولا تؤثر على مسألة الانحلال وعدمه، حيث إن المحلوظ في الانحلال الخصوصية في المعلوم من حيث هو مضمون، ككونه عن دم، أو كونه عن تعارض.
وبالتالي: فالنكتة الاولى التي افيدت لبيان الانحلال تامّة، مقتضى تساوي السبب لكل من الطرفين ان المقدار المعلوم هو الجامع فقد، وبما ان المعلوم من حيث هو معلوم ليس الا المقدار وهو الجامع فانطباقه على المعلوم بالتفصيل وجداني.
أمّا النكتة الثانية: وهي: أنه بعد تساوي نسبة الجامع لكل من الطرفين فتعين صدقه في احدهما ترجيح بلا مرجح فهي أثر من آثار العلم الاجمالي قضية منفصلة، وليست نكتة أخرى للانحلال، إذ ما دام الجامع متساوية النسبة لكل من الطرفين، فمقتضى ذلك تشكل قضية منفصلة، وهي: ان الجامع اما في هذا الطرف واما في هذا الطرف، واثر القضية المنفصلة: ان انطباقه على أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح أو فقل خلف كون القضية منفصلة، لا ان هذه هي النكتة في الانحلال فالعلم الاجمالي متقوم بقضية منفصلة، ومقتضى هذا التقوم ان صدقه على أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح أو خلف كون القضية قضية منفصلة. وبالتالي: ليست النكتة في الانحلال انه: إذا علم تفصيلا بنجاسة احدهما زال الترجيح بلا مرجح وصار بمرجح فإن هذا بزوال للاثر وزوال الأثر فرع زوال المؤثر، فلابد أن ترجع نكتة الانحلال إلى المؤثر لا إلى الأثر. وإذا رجعت نكتة الانحلال إلى المؤثر فما هو المؤثر في زوال القضية المنفصلة هو ان المقدار المعلوم بالاجمال بما هو معلوم منطبق وجدانا على المعلوم بالتفصيل.