الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الفقه

37/05/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الخلل الواقع في الصلاة

تلخّص من البحث الماضي: أنّ الجمع بين الشرطية والمانعية في الاضداد في عالم التكوين أمر ممكن، فمن الممكن ان يكون الضد شرطا ويكون الضد الآخر مانعاً. وذلك بلحاظ ان الدليل الذي ساقه المحقق النائيني على الامتناع وهو اما عدم معقولية اجتماع سببين تامّين للضدين سبقت المناقشة فيه مفصلاً. كما أن الدليل الآخر الذي ساقه لإثبات الامتناع في عالم التكوين وتبعه عليه سيدنا الخوئي «قده» من أن عدم المانع متأخر رتبة عن الشرط والمقتضي، وبما انه متأخر رتبة عنه فلا يعقل ان يستند عدم المعلول لوجود المانع مع عدم الشرط، وبالتالي فلا يمكن ان يتصف المعلوم بالمانعية مع وجود الشرط. وهذا الكلام أيضاً ممنوع بلحاظ ان المانع قد يكون مزاحما للمقتضي وقد يكون مزاحما للشرط نفسه، وقد يكون مزاحما لمجموعهما.
مثلاً: إذا افترضنا ان شخصا ما اراد فعل القبيح أو فعل ما يخاف منه، فقد يحصل له الشوق المؤكد نحو فعل القبيح، الا ان هذا الشوق المؤكد لا يحرّك العضلة نحو فعل القبيح مع احتمال وجود الرقيب، فخوفه من الرقيب منع من تمامية المقتضي. فهنا يكون المانع وهو الخوف من الرقيب مؤّثراً في تمامية المقتضي فإنه وان حصل له شوق مؤكد نحو فعل القبيح إلا ان هذا الشوق لا يصل إلى درجة المحركّية للعضلات مع ممانعته ومزاحمته بالخوف من الرقيب، وحينئذٍ عدم المنانع يكون في رتبة المقتضي نفسه وليس متأخرا عنه.
وقد يكون المانع مزاحما لمرتبة الشرط نفسه، لا انه متأخر رتبة عن الشرط. كما لو افترضنا ان وجود الكتابة على الورق منوطة بالمقتضي وهو حركة القلم، ومنوطة بالشرط وهو وجود قرطاس مثلاً، خال من اللون المانع من ظهور الكتابة، ومنوط ايضا بعدم المانع وهو عدم تعرج القلم بحيث لا يمكن فيه الكتابة. فحينئذ يمكن ان يقال: بأن المانع وهو تعرّج القلم مزاحم للشرط نفسه وهو وجود القرطاس، فهما في رتبة واحدة، بحيث يصح لنا ان نقول: إن عدم الكتابة لعدم القرطاس الخالي من اللون أو ان عدم الكتابة لوجود التعرج في القلم فيصح إسناد عدم المعلول لكل منهما في رتبة واحدة.
وقد يكون المانع مزاحماً للمجموع وبالتالي سوف يكون متأخراً رتبة عن الشرط كمثال المحقق النائيني وهي مسألة رطوبة الجسم، حيث قال: ان رطوبة الجسم إنما تتصف بالمانعية من الاحتراق بعد وجود المقتضي وهو النار ووجود الشرط اقتراب الجسم من النار، إذ ما لم يقترب الجسم من النار فلا يتصف البلل بالمانعية، وإذا لم يحترق الجسم لعدم اقترابه لا يصح تعليله عند العقلاء لوجود الرطوبة بل يقولون بعدم اقترابه.
فالنتيجة: دعوى أنّ عدم المانع متأخر رتبة عن الشرط في جميع موارده بحيث نؤسس على ذلك بأنه لا يعقل اتصاف الضد بالشرطية واتصاف ضده بالمانعية في عرض واحد كما صنع المحقق النائيني غير تام.
ويندفع بذلك ما أوردناه سابقا على المحقق الاصفهاني عندما ناقشناه في هذه النقطة.
بقي تنبيه:
وهو أنه: قد يقال لا ربط لهذه المسألة بما هو محل الكلام، فإن محل الكلام: هو انه هل يمكن جعل الشرطية للضد وجعل المانعية لضده، كأن يقوم المولى بجعل الشرطية للاستقبال في صحة الصلاة وجعل المانعية للاستدبار، أو يجعل الشرطية لمأكول المانع والمانعية لما لا يؤكل؟! وهذا هو محل البحث، وهو بحث متعلق بعالم الجعل، فأي ربط له بعالم التكوين؟! سواء قلنا بإمكان اجتماع الشرطية والمانعية للضدين في عالم التكوين أم لم نقل، فنحن نبحث في عالم الجعل فلا ربط لمسألتنا في عالم التكوين بحيث نبحث في ذلك في عالم التكوين اولاً ثم نبحثها في عالم التشريع ثانياً.
ولكن هذا مندفع؛ بلحاظ أنّ المحقق العراقي وغيره ذكر: أنّ البحث في المقام كما هو بلحاظ عالم الجعل فهو بلحاظ علم الملاك أيضاً، والملاك من الأمور التكوينية، باعتبار ان عالم الجعل حاكٍ عن عالم الملاك، فما هو مجعول شرطاً للواجب ما كان شرطا في الملاك، وما هو مجعول مانعا من صحة الواجب ما كان مانعاً بلحاظ الملاك، فحيث إن مرجع جعل الشرطية والمانعية للواجب إلى الشرطية والمانعية بلحاظ الملاك اذن لابد من البحث اولا في إمكان اجتماع الشرطية والمانعية للضدين في عالم التكوين، ثم على اثر ذلك إذا ثبت الامكان نبحث عن امكان جعلهما بلحاظ عالم التشريع، بلحاظ ان الملاك أمر تكويني.
إلّا أن يقال: بأن الملاك لا ينحصر في الملاكات التكوينية، بل قد يكون ملاك الحكم الشرعي أمراً اعتباريا عقلائياً وإن لم يكن له واقعي خارجي، مثلا لو افترضنا ان الشارع المقدس لاحظ في مسألة الصلاة عند قبر المعصوم ما في بعض الروايات: «من أنه ميتاً كما هو حيّاً» أي ان الحضور عند قبره حضور عند شخصه، فإن الروايات تعامل قبره معاملة شخصه، فكأنه حاضر، وبالتالي فحينئذٍ تلاحظ الملاكات الاعتبارية المترتبة على حضور المعصوم، فيصح أن نبحث: بأن نقول: هل يشترط في صحة الصلاة عند قبر المعصوم التأخر عن القبر أو لا؟ وعلى فرضية شرطية التأخر هل التقدم مانع أم لا؟
فهنا نبحث: هل انه يمكن الجمع بين شرطية الضد وهو التأخر وبين مانعية الضد وهو التقدم أم لا؟
فيقال: بأن مرد ذلك إلى ملاحظة الملاك، والملاك الملحوظ في المقام ليس أمراً تكوينياً خارجياً وإنما هو أمر عقلائي اعتباري يرتبط بالحسن والقبح العقلائيين، لذلك يمكن ان يقال: ان الشارع اعتبر المانعية للتقدم على قبر المعصوم لما في التقدم على قبره من هتك لحرمته وتوهين لمقامه، ومن الواضح أن الهتك والحرمة من الأمور العقلائية لا من الأمور التكوينية الخارجية.
فاذا كان الشارع يعتبر المانعية للتقدم على قبر المعصوم بلحاظ ملاك اعتباري عقلائي، فهل يمكن ان يعتبر الشرطية لضده بلحاظ هذا الملاك العقلائي؟
إذن مجرد استحالة أو امكان اجتماع الشرطية والمانعية في الاضداد التكوينية لا يعني ان المسألة حُلّت بلحاظ الجعل في التشريعيات، إذ لا يلزم ان يكون ملاك التشريعات دائما من قبيل الامور التكوينية. فيمكن ان يقال في المقام: كما في كلمات السيد الامام: أنه يمكن ان يقال بأن الشارع الشريف لم يلحظ فقد قبح الهتك، بل المعصوم اعظم من أن يلاحظ فيه الهتك الذي يلاحظ في كل مؤمن. فالمعصوم مقامه ارفع من ذلك، ليس المدار على حرمة هتك المعصوم وعدمه، لأن حرمة الهتك سارية بلحاظ كل مؤمن، بل المطلوب بالنسبة إلى المعصوم ما هو اعظم من ذلك وهو حفظ الادب معه. ولذلك هو افتى في «تحرير الوسيلة» بأنه يحرم الصلاة متقدما على قبر المعصوم وإن لم يستلزم منه الهتك إذا كان التقدم مستلزما أو منافيا لحفظ الادب وان لم يستلزم الهتك إلا انه إذا كان التقدم منافياً مع حفظ الأدب مع المعصوم كان محرماً فضلا عن استلزماه لحرمة الهتك. بخلاف سائر الفقهاء الذين قيّدوا المسألة بمسألة الهتك. إذن إذا لاحظ المعصوم هذه المسألة فيمكن ان يقول: بأنه يشترط في صحة الصلاة التأخر عن قبر المعصوم، فإن في التأخر حفظا للأدب، والتقدم مانع فإن في التقدم هتكا لحرمته. إذن لا تنحل المسألة بملاحظة الملاكات في عالم التكوين، بل لابد من النظر إلى الملاكات ايضاً العقلائية، وبالتالي فبحث المسألة من حيث الملاك لا يقتصر حلّه ملاحظة الملاكات التكوينية الخارجية.
وإن كانت المحقق العراقي «قده» أفاد في رسالته «اللباس المشكوك، ص122»:
«ومن هذا البيان ظهر فساد توهم كون مناط مانعية الشيء للمطلوب مضادة وجود الشيء مع مناطه ومنافاته معه إذ لازمه كون عدم المانع في رتبة المناط المزبور وحيث ان المطلوب مقدمة للمناط فيصير نسبة المطلوب والمانع نسبة ضد الشيء للشيء، وفي مثله لا مجال لاعتبار تقيد المطلوب بعدم المانع كي يصير عدم المانع مثل الشرط من المقدمات فيقتضي ايجابه ايجاب مقدماته وجودية أو عدمية، فلا مجال لاعتبار مقدمية الأعدم المزبورة حينئذٍ إلا بدخلها في قابلية المعلول للتأثر، ومرجعه إلى كونها منشأ لتحديد الشيء بحد يكون بذلك الحد يكون قابلا للوجود دون غيره، فيكون عدم المانع والشرائط في كيفية الدخل في المانع بمساق واحد».
وملّخص كلامه:
أنه قد يقال: بأن المانع دخيل في الملاك «ملاك الواجب»، ولنفترض مثلا الصلاة، الصلاة واجب ذو ملاك، وملاكه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، فهذا النهي عن الفحشاء والمنكر ملاك لوجوب الصلاة، فربما يقال: بأن المانع كاستدبار القبلة كالضحك، كالبكاء، هذا المانع دخيل في الملاك، بمعنى ان ملاك الصلاة لا يكون ملاكا تاما الا بانتفاء هذه الموانع، كالضحك، كالبكاء، كالاستدبار. ربما يقال بذلك، فعلى هذا الاساس سوف تكون الصلاة مقدمة لضد المانع، لأن الصلاة مقدمة لتحصيل الملاك، حيث لا يمكن تحصيل الناهوية عن الفحشاء والمنكر إلا بالصلاة، فالصلاة بالنسبة إلى ملاكها مقدمة، وبما ان المانع يزاحم الملاك لأن الاستدبار يزاحم الناهوية أصبحت الصلاة مقدمة لضد المانع، لأنها مقدّمة للناهوية والناهوية مضادة مع الاستدبار أو الضحك أو البكاء. وبناء على ذلك فالصلاة متقدمة رتبة عن المانع لأن المانع في رتبة الملاك وبما ان الصلاة متقدمة للملاك إذن الصلاة متقدمة رتبة على المانع، فاذا كانت متقدمة رتبة عليه فلا يصح تقييدها بعدمه، بأن نقول: الواجب هو الصلاة المقيدة بعدم الاستدبار، لأنه من باب تقييد ما هو متقدم رتبة بما هو متأخر رتبة. هذا إذا لم تكن الصلاة مشروطة بالضد فكيف إذا كانت مشروطة بالضد، كأن كانت الصلاة مشروطة بالاستقبال.
فانه إذا كانت الصلاة اللا بشرط من جهة الاستقبال مما لا يمكن تقييدها بعدم الاستدبار لتأخره رتبة فكيف في الصلاة المشروط بالاستقبال ان تكون مشروطة بعدم الاستدبار. فربما يقال: بأن مرجع استحالة المانعية إلى هذا القريب.
فأجاب عنه «قده» في نفس الصفحة: قال: بأن هذا كله مبني على المبنى الفاسد الذي يصرّ عليه المحقق النائيني: من ان المانع ما يزاحم مجموع المقتضي والشرط ويكون دخيلا في فعلية الاثر.
ولكننا قلنا في صفحة سابقة وهي «ص121» وقد وافق في هذا المبنى المحقق الاصفهاني «قدس سرهما»، قال: أن المانع لا دخل له الا في تتميم قابلية القابل. بمعنى ان وجود الناهوية عن المنكر في نفس هذا المكلف. أو بعبارة أخرى: تأثّر نفس المصلّي بملاك الصلاة وهو الناهوية عن المنكر يحتاج إلى قابلية المصلي لذلك، فلا يمكن للمصلي أن يتأثر بهذا الملاك الا وهو الناهوية عن المنكر الا إذا كان قابلا لهذه الناهوية، وعدم المانع يكون متمماً لهذا القابلية. حيث ان عدم الضحك عدم البكاء عدم القفز عدم الرقص، يكون متمماً لقابلية القابل، أي قابلية المصلي لتلقي هذا الملاك والتأثر به، فبما انه دخيل في تتميم قابلية القابل فهو مع الشرط في رتبة واحد، بل هو كما ذكر المحقق الاصفهاني من مصاديق الشرط، لأن الشرط اما مصحح لفاعلية الفاعل أو متمم لقابلية القابل، وبالتالي ليس متأخراً عن الصلاة المشروطة ما دام هو في رتبة شروطها، فيصح تقييدها بعدم المانع.
هذا ما اجاب به المحقق العراقي وهو مبني على مرتكز في ذهنه من ان المانع ما كان دخيلا في قابلية القابل. وقد ذكرنا سابقا ان المانع لا ينحصر دوره في ذلك.
ولكن الجواب عن الإشكال الذي أفاده، أن يقال:
تارة: يكون المانع _في كلام المشكل_ دخيلا في الاتصاف، وتارة: يكون دخيلا في الفعلية، ولذلك قالوا في الاصول: ان الفرق بين شروط الوجوب وشروط الواجب أن شروط الوجوب ما يرجع إلى اصل الاتصاف، بينما شروط الواجب ما يرجع إلى الفعلية، لأجل ذلك نقول: اتصاف الصلاة بكونها ذات ملاك شيء وفعلية ذلك الملاك شيء اخر، فاتصاف الصلاة بكونها ذات ملاك سابق رتبة على الصلاة، وما هو متأخر رتبة عن الصلاة هو فعلية الملاك، واما اتصاف الصلاة به فهو متقدم رتبة عن الصلاة، لذلك هذا المانع هل هو دخيل في الاتصاف أو هو دخيل في الفعلية؟
فان كان المانع دخيلا في الاتصاف بحيث تتصف الصلاة بكونها ذات ملاك الا بعدم المانع، إذن فهو سابق رتبة عن الصلاة، وبالتالي يكون من شروط الوجوب، مثل دخول الوقت، حيث إنه من شروط الوجوب البلوغ، العقل، حيث إنه من شروط الوجوب وما يكون شروط الوجوب فلا يدخل تحت دائرة الطلب وجوداً أو عدماً، لذلك لا يصح تقييد الواجب به لأنه سابق رتبة على الواجب وغير داخل تحت الطلب.
أمّا إذا كان دخيلاً في الفعلية بحيث يكون تحصيل هذا الملاك بالصلاة متوقف على عدمه، فصحيح أنه متأخر رتبة عن الصلاة، ولكن كونه متأخراً رتبة عن الصلاة لا يمنع من تقييد الصلاة بعدمه شرعاً، فإن الغرض من التقييد بالعدم حفظ الملاك، فيصح للشارع المقدس أن يقول: ما امرتك به الصلاة المقيدة بعدم الضحك، وان كان عدم الضحك دخيلاً في فعلية الملاك المتأخر رتبة عن الصلاة، فإن تقييد هذا المتقدم رتبة بما هو متأخر عنه رتبة في مقام الجعل أمر لا مانع منه ما دم الغرض من هذا التقييد هو حفظ الملاك في مرحلة الفعلية.
وبذلك تم الكلام في بحث امكان الجمع بين الشرطية والمانعية في التكوينيات.
وسوف ندخل في إمكان الجمع بينهما في التشريعيات.