الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الفقه

37/02/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الخلل الواقع في الصلاة

كان الكلام: في أنّ المجعول في لباس المصلّي هل هو شرطية التذكية؟ فلابُّد من إحراز هذا الشرط؟!، فإذا شك في الجلد أنّه مذكّى أو ميتة فمقتضى استصحاب عدم التذكية عدم صحة الصلاة فيه، لأنّ الشرط منفي بالاستصحاب، وهو شرط التذكية؟. أم أنّ المجعول هو مانعية الميتة، فليست التذكية شرطاً ولكن الميتة _أي كون اللباس ميتة_ مانع من صحة الصلاة.
فبناءً على ذلك: يقع البحث: هل أنّ المراد بالميتة هو معنى عدمي وهو عبارة عن عدم المذكى؟ أم أنّ المراد بالميتة معنى وجودي وهو عبارة عمّا زهقت روحه بوجه غير شرعي؟.
فإن قلنا: إنّ الميتة عبارة عدم التذكية، كما هو مسلك سيد المستمسك «قده» فالنتيجة هي نتيجة القول الاول، لأن الشارع قرّر أن الميتة مانع من صحة الصلاة والمراد بالميتة عدم التذكية فاذا شككنا في أن هذا الجلد مذكى أم لا؟ فاستصحاب عدم التذكية يثبت انه ميتة، وبالتالي لا يصح الصلاة فيه.
وأما إذا قلنا _وهو المهم_: أنّ الميتة مانع وأنّ المراد بالميتة معنى وجودي، أي أنّ المشرّع حكم بأنه يشترط في صحة الصلاة أن لا يكون الثوب ميتة والميتة أمر وجودي، فاذا شككنا في هذا الجلد ميتة أم لا فحيث لم نحرز الامر الوجودي فيجري استصحاب عدم كونه ميتة، لا استصحاب عدم التذكية، لان استصحاب عدم التذكية لا يثبت انه ميتة الا بالاصل المثبت، فالجاري استصحاب عدم كونه ميتة ومقتضى هذا الاستصحاب صحة الصلاة فيه. وهذا الرأي الثالث ذهب اليه السيد الاستاذ «دام ظله»: فيرى أن المستفاد من الروايات ليست شرطية التذكية كما يقول السيد الخوئي، بل المستفاد من الروايات مانعية الميتة، ان اتصاف الثوب بكونه ميتة مانع من صحة الصلاة، والمراد بالميتة ليس المعنى العدمي كما ذهب اليه سيد المستمسك «قده» بل المراد بالميتة معنى وجودي وهو: ما زهقت روحه بوجه غير شرعي، وبالتالي: متى شككنا في الجلد سواء كان ساترا للعورة أم لم يكن، ملبوسا أم محمولا، إذا شككنا في الجلد انه مذكى أو لا، صحت الصلاة فيه، إذ لم يحرز كونه ميتة، واستصحاب عدم كونه ميتة ينفي المانعية، فما هو الدليل على ذلك.؟.
قد تعرض نجله لاستدلاله في كتاب «بحوث فقهية، ص470»: فذكر أن هناك مقامين للبحث:
المقام الأول: ما تتم الصلاة فيه، كساتر العورة، الثوب.
المقا الثاني: ما لم تتم الصلاة فيه الكخف، والقلنسوة وأمثال ذلك.
فالكلام فعلا فيما تتم الصلاة فيه: فهل يستفاد من الروايات فيما تتم فيه الصلاة ان الميتة مانع بمعناها الوجودي أم أن التذكية شرط كما يقول سيدنا الخوئي «قده»؟. فقال:
قد وردت هنا معتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس ان اباه كتب إلى ابي الحسن _ابو الحسن الاول_ «يسأله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا اعلم أنه ذكيٌّ؟ فكتب : لا بأس به». مع أنه مورد الشك في التذكية قال: لا بأس بالصلاة فيه.
وهذه الرواية لها مدولولان مطابقي والتزامي:
اما المعنى المطابقي: فهو صحة الصلاة في مشكوك التذكية وهذا هو موردها.
اما المعنى الالتزامي: فهو ان المجعول شرعا هو مانعية الميتة بما لها من معنى وجودي. إذ لو كان المجعول شرعا هو شرطية التذكية كما يقول السيد الخوئي لكان مقتضى القاعدة هو عدم صحة الصلاة لان المكلف لم يحرز الشرط، ولو كان المجعول شرعا مانعية الميتة بالمعنى العدمي وهو ما ليس مذكى كما يقول في المستمسك لكان أيضاً مقتضى القاعدة عدم صحة الصلاة لأنّ استصحاب عدم التذكية يثبت الميتة. فدلالة الرواية بالمطابقة على صحة الصلاة في مشكوك التذكية توجب دلالتها بالالتزام على ان المجعول الشرعي هو مانعية الميتة بما لها من معنى وجودي، وحيث يشك في حصول ذلك فيجري استصحاب عدمه فتصح الصلاة.
ولكن هذا الاستدلال قد يُشكل عليه بوجوه:
الوجه الاول: بناء على مسلك السيد الاستاذ «دام ظله» من أن القدر المتيقن في مقام التخاطب مانع من انعقاد الاطلاق الوارد في مقام الافتاء لا يتم الاستدلال بهذه الرواية على نحو الإطلاق. بيان ذلك:
ذكر السيد الأستاذ في بحث «تعارض الأدلة»: ان الروايات الواردة عن الأئمة على مستويين: مستوى التعليم. ومستوى الافتاء.
فالروايات الواردة على سبيل التعليم: هي الروايات التي مفادها بيان الحكم الشرعي على نحو القضية الحقيقية، من دون نظر إلى حالات المخاطب بهذا الخطاب وملابساته فهو بيان للحكم الشرعي كما هو عليه. ويلتئم مع هذا المستوى ما ورد عنهم : «علينا القاء الاصول وعليكم التفريع».
وأما الروايات الواردة في مقام الافتاء: فهي عبارة عن ورود سؤال من قبل احد المستفتين، كما إذا استفتاه معاوية ابن عمار في الحج، أو استفتاه ابن ابي عمير في الصلاة وما اشبه ذلك. فكان الجواب الصادر منه لا على سبيل بيان الحكم الكلي بل الجواب الصادر منه بيان الوظيفة الفعلية للمستفتي، ما هي وظيفتك الفعلية في هذا الحال، وبالتالي فمقتضى الخطاب الوارد في مقام الافتاء، ملاحظة حال المخاطب وملابساته.
مثلا: تارة يتحدث الامام ع عن كفارة من افطر في شهر رمضان متعمدا فهذا كلام على سبيل التعليم. فلذلك يذكر ان كفارة الافطار في شهر رمضان متعمدا مخيرة بين خصال ثلاث: العتق، والصوم، الإطعام.
وأما إذا سأله سائل بأن قال: لقد افطرت في شهر رمضان متعمداً، فالامام في مقام بيان الوظيفة العلمية، فقد يختصر الامام على بيان شق واحد من الخصال الثلاث لأنه المناسب لحال المخاطب وملابساته، فيقول له مثلا: عليك ان تطعم ستين مسكينا، أو إذا رآه عاجز عن ذلك قال له عليك ان تصوم شهرين متتابعين.
لذلك ما يقتضيه مقام التعليم غير ما يقتضيه مقام الافتاء، ويترتب على الفرق بين المقامين آثار استنباطية.
فمن هذه الآثار الاستنباطية التي بنى عليها في أصوله وفقهه: أن مقام التعليم حيث إنه بيان لكبريات كلية لا ينظر فيه إلى حال المخاطب يصح الاتكّاء فيه على المقيدات المنفصلة، لأن بيان الاحكام الشرعية على سبيل التدريج لا على سبيل الدفعة. فمن المعقول ومن المقبول عرفا ان يذكر الامام الكبرى وبعد سنة يذكر المقيد له، لانه لم يكن في مقام بيان الوظيفة الفعلية، وإنما كان في بيان تعليم الحكم. أو يذكر الامام الصادق الكبرى، ويذكر الكاظم المقيدات لها. فالاتكاء على المقيد المنفصل ولو بعد سنين غير مستهجن عرفا في الروايات الواردة على سبيل التعليم.
أما الخطاب الوارد على سبيل الافتاء وبيان الوظيفة الفعلية للمستفتي فمن المستهجن ان يتكأ الامام على مقيد منفصل والحال ان المستفتي يطالب ببيان وظيفيته الفعلية، فليس من المقبول لدى العرف العقلائي أن يتكأ الإمام على المقيد المنفصل مع مطالبة المستفتي ببيان وظيفته الفعلية. لذلك إذا ورد عندنا خطاب عام على مستوى التعليم، بأن قال: «كل ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر». أو قال في الخطاب العام: «إيما امرأ ارتكب أمراً بجهالة فلا شيء عليه». ثم ورد مقيد منفصل، فإنه يحمل العام على المخصص. كما إذا ورد: «الا إذا ارتكب الجماع وهو محرم فانه يترتب عليه كذا وكذا». وأما إذا كان الخطاب الأول وارد على سبيل الإفتاء وبيان الوظيفة الفعلية، فجاء بعد زمن مقيد منفصل كان معارضا وليس مقيدا إذ لا يحتمل عرفا الاتكاء على المقيد المنفصل في خطابات الافتاء.
الاثر الثاني: المرتبط بمحل المسألة ويؤثر على المسألة التي نبحث فيها، هي: إذا جاء من المولى خطاب على مستوى التعليم، اي انه بيان حكمي على نحو القضية الحقيقية، بأن قال المولى مثلا: «يحرم لبس الذهب على الرجل». وكان في الخارج القدر المتيقن في مقام التخاطب بين السامع للامام وبين الامام هو الذهب الاصفر بحيث لا ينقدح من قول الامام يحرم من لبس الذهب على الرجل إلا الذهب الاصفر. فإن هذا لا يوجب تقييد الإطلاق، إذ الاطلاق كان صادراً على سبيل القضية الحقيقية التي لم ينظر فيها إلى حال المخاطب وملابساته، وحيث ان الخطاب الوارد هو يحرم على الرجل لبس الذهب فمقتضى ذلك: انه متى ما فلز يصدق عليه انه ذهب كان حراما لبسه على الرجل كان اصفر أم ابيض إلى غير ذلك.
وأما إذا افترضنا بأن الخطاب الوارد كان على سبيل الافتاء، الذي يراعى فيه حال المخاطب وملابساته، بأن قال المخاطب مستفتيا، هل يحرم عليّ لبس الخاتم أم لا؟. فقال : ان كان ذهبا فانه يحرم عليك.
فإن القدر المتيقن في مقام التخاطب بين المستفتي والمفتي وهو الإمام وهو الذهب الاصفر مانع من انعقاد الاطلاق. والسر في مانعيته عن الاطلاق: ان التقييد هنا لغو، بمعنى أنه لو كان الحكم في الواقع وفي علم الله هو اختصاص الحرمة بالذهب الاصفر فاراد الامام ان يقيد فلو قال المستفتي للامام: هل يحرم عليّ لبس الخاتم، فقال: إن كان ذهبا اصفر فإنه يحرم عليك. كان تقييد الذهب بالذهب الاصفر مستهجناً. إذاً في الخطاب الوارد على سبيل التعليم اي بيان الحكم الكلي ينعقد الاطلاق ووجود القدر المتيقن في مقام التخاطب غير ضائر لان الامام قادر على الاطلاق والتقييد بهذا الخطاب أو بمجموع خطابات ولو بمرور ازمنة متعددة.
وأما الخطاب الوارد على سبيل الافتاء الذي يراعى فيه ظرف المخاطب وملابساته، فالقدر المتيقن في مقام التخاطب بين المفتي والمستفتي مانع من انعقاد الاطلاق، والسر في ذلك: أن انعقاد الاطلاق فرع امكان التقييد، فإذا كان المتكلم وهو الامام في سعة ان يطلق أو ان يقيد كان عدم التقييد كاشفا عن الاطلاق، اما إذا كان في سعة ان يطلق أو يقيد لان التقييد لغو ومستهجن بالنسبة اليه فعدم التقييد لا يكشف عن الإطلاق، فلا يمكن ان يستفاد من قوله: «إن كان ذهبا حرم عليك لبسه» حرمة مطلق الذهب اصفر أم ابيض.
وبالنتيجة: تظهر الثمرة في محل كلامنا: يعني نحن نريد ان نناقش هذا الاستدلال بمنى السيد الاستاذ نفسه:
فإذا نظرنا إلى معتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس: «أن أباه كتب إلى ابي الحسن يسأله عن الفرو والخف ألبسه واصلي فيه ولا اعلم انه ذكي _مشكوك التذكية_؟، فقال: لا باس به»، فإن هذا خطاب وارد في مقام الافتاء، وهناك قدرا متيقنا في مقام التخاطب. وهو أن الفرو مأخوذ من بلاد الإسلام أو سوق المسلمين. هذا قدر متيقن في مقام التخاطب. فبما ان هذا الخطاب وارد في مقام الافتاء ومحفوف بقدر متيقن في مقام التخاطب، وهو كون الفرو اما مأخوذا من سوق المسلمين أو يد المسلم أو من ارض الإسلام وكلها امارات على التذكية فلعل الامام عندما قال: «لا بأس به» بلحاظ الحال المتعارف وهو ان الفرو قد قامت عليه امارة من امارت التذكية. فلأجل ذلك، لا يحرز إطلاق مفاد هذه الرواية حتى لفرض كون الجلد مستوردا من بلاد الكفر مثلا، من غير امارة على التذكية.
فإن قلت: ظاهر بعض الروايات ان المسلمين كانوا مبتليَن بما يرد في بلاد الكف. كما في موثقة اسماعيل ابن الفضل، قال: «سالت أبا عبد الله ع عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها، إذا لم يكن من أرض المصلّين؟ فقال ع: أما النعال والخفاف فلا بأس بهما». ولم يتعرض إلى حكم الجلود.
ولكن نقول: قلت: وان دلت الرواية على وجود ابتلاء ببعض الجلود المستوردة من بلاد الكفر إلا انه لا اشكال ان الفرد الشائع المتعارف هو ان الجلد مما قامت عليه امارة على التذكية من ارض أو سوق أو يد مسلم. فوجود ابتلاء جزئي بجلود مستوردة من بلاد الكفر لا ينفي ان القدر المتيقن في مقام التخاطب هو الفرد الشائع المتعارف والفرد الشائع المتعارف هو جلد قامت عليه امارة من إمارات التذكية.
الوجه الثاني: _للمناقشة_: دعوى انه على فرض اطلاق الرواية في قوله «لابأس به» حتى لما إذا كان مستوردا من بلاد الكفر. فالرواية مطلقة كل مشكوك التذكية يصح الصلاة فيه، فلنفترض ان هذه الرواية مطلقة، مع ذلك ادعي وجود عدة روايات مقيدة لهذه الرواية:
من هذه الروايات: صحيحة سليمان ابي جعفر الجعفري، عن الكاظم : سالته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة الفراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال: نعم، ليس عليكم المسألة إن أبا جعفر _الباقر_ كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على انفسهم بجهالتهم أن الدين اوسع من ذلك».
فيُدّعى: أن القضية مشتملة على منطوق ومفهوم.
فالمنطوق: ما كان من السوق فتصح الصلاة فيه. ومقتضى مفهومها: أن ما لم يكن من السوق فلا تصح الصلاة فيه، فيقيد اطلاق معتبرة جعفر ابن محمد ابن يونس بمفهوم صحيحة سليمان ابن جعفر الجعفري.
وقد اجيب عن الاستدلال بهذه الرواية بأحد وجهين:
الوجه الأول: أنه لا مفهوم لها، لأنها من مفهوم اللقط، هي في مقام بيان ما طرحه السائل. السائل هو الذي افترض أن الجبة من السوق. فبعد ان فرض السائل ان الجبة مشتراة من السوق اجاب على طبق هذا الفرض، ومن الواضح أن الجواب على فرض جواب معين ليس له مفهوم بحيث يكون مفهومه موجبا لتقييد إطلاق معتبرة محمد أبن جعفر ابن يونس.