الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الفقه

36/11/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الخلل الواقع في الصلاة

ما زال الكلام في الوجوه التي أقيمت لإثبات اشتراط الإباحة في الساتر الصلاتي، ووصل الكلام إلى:
الوجه الثالث: ومحصّله: أنّ ستر العورة مأمورٌ به لكونه شرطاً في صحة الصلاة، فإذا كان ستر العورة تصرفاً في ملك الغير، كما إذا كان الساتر مغصوباً فستر العورة اصبح مغضوبا لكونه غصبا، وما هو مبغوض لا يعقل ان يكون مصداقاً لما هو المأمور به. والنتيجة: عدم شمول الأمر بستر العورة في الصلاة لهذا الستر الغصبي.
فقد أجيب عن هذا الاستدلال بأجوبة:
الجواب الأول: ما ذكره المحقق الحائري «قده» في «كتاب الصلاة، ص47»: ومحصّله:
أنّ المحرّم والمنهي عنه هو اللبس، أي لبس الساتر الغصبي، ومن الواضح ان اللبس لا ربط له بالصلاة، فمن لبس ساتراً مغصوباً كان لبسه غصباً، صلى أم لم يصل، فبما أنّ هذا اللبس ليس مرتبطا بالصلاة فقد تحقق الغصب ووقع المحرّم بمجرد اللبس. والدخول في الصلاة لا يضيف غصباً جديداً ومحرّماً جديداً كي يقال: بأنّ المبغوض والمنهي عنه لا يُعقل ان يكون مصداقاً للمأمور به، فإن المفروض أنّ الدخول في الصلاة لم يضف محرما جديداً غير ما وقع من المكلف أو من الصلاة.
ويلاحظ على هذا الجواب:
أنّ مقتضى مناسبة الحكم للموضوع، أي مقتضى تعلق الحرمة بالغصب انحلال الحرمة بفرض الحدوث وفرض البقاء، ففي كل آنٍ آن يمر على الغصب تكون هناك حرمة متعلقة بهذا الغصب، إذ أنّ المناط في حرمة الغصب الانتفاع بملك الغير، أو حبس ملك الغير عنه، وهذا لا فرق فيه بين مرحلة الحدوث ومرحلة البقاء، فكما ان حدوث اللبس محرم فإن بقاءه محرم، وبالتالي فبقاء هذا اللبس محرم مبغوض والمبغوض لا يصلح ان يكون مصداقا لما هو المأمور به.
الجواب الثاني: ما ذكره سيد المستمسك «قده»: «ص279» وكرر المطلب في «ص282»: قال في «ص279، ج5»: والتستر بالثوب وإن كان تصرفا فيه إلا أنه ليس من افعال الصلاة بل من شرائطها، ولذلك لا إشكال في صحة الصلاة مع الغفلة عن التستر أصلاً. والقصد شرط في صحة العبادة.
ومحصّل كلامه:
أنّ التستر ليس مأموراً به بالامر الصلاتي، إذ التستر ليس جزءاً من اجزاء الصلاة كي يتعلق به أمراً ضمني كسائر اجزاء الصلاة، ولو كان التستر جزءا صلاتيا لما صحت الصلاة عن التستر عن غفلة، فلو فرضنا ان انسانا وقع منه ستر العورة حين الصلاة غافلا عن الستر نهائيا، مع ذلك تكون صلاته صحيحة، فلو كان الستر جزءاً وجزء الصلاة لابد ان يقع عن قصد لأن الصلاة عمل قصدي فكما لا يصح الركوع غفلة من دون قصد للركوع كذلك لا يصح الستر غفلة من دون قصدٍ لو كان جزءاً صلاتياً. مع انه لا إشكال في صحت الصلاة مع الستر وإن وقع الستر بلا قصد.
وهذا شاهد عن أنّ الستر ليس جزءاً من الصلاة وإنّما هو من شرائطها.
نأتي إلى «ص282»: قال: فإن مجرد وجوب التستر في الصلاة في الجملة لا يقتضي جزئيته، بل ظاهر بعضٍ: المفروغية عن عدم اعتبار النية فيه - يعني لا يعتبر وقوعه عن قصدٍ - ومقتضاه: - مقتضى عدم اعتبار النية فيه - عدم جزئيته.
وإذا كان التستر شرطا وليس جزءاً: لم يكن تحريمه مانعاً من التقرب بالصلاة كسائر شرائط العبادة - أي شرط يقع محرّم حرمته لا تمنع من مقربية الصلاة - إذ التعبد - التقرب، اللازم في الصلاة إنما يكون في اجزاءها الداخلة فيها لا الشرائط الخارجة عنها، إنما يجب ايقاع العمل بقصد القربة إذا كان من اجزائها واما إذا من شرائطها فلا يعتبر فيه قصد القربة بل الأمر فيه أمر توصلي. فالأمر بإيقاع الصلاة في الوقت أو إيقاع الصلاة إلى القبلة، أو إيقاع الصلاة مع الاطمئنان كلها أوامر توصلية، لا يعتبر إيقاعها بقصد القربة -. إذ التعبد اللازم فيها إنما يكون في أجزاءها الداخلة فيها لا الشرائط الخارجة عنها. بل لو شك في كونه جزءاً يجب التقرب به أو شرطا لا يجب التقرب به، فالاصل البراءة عن وجوب التقرب. بناء على ما هو التحقيق - في مسألة هل يؤخذ قصد الأمر في متعلق الأمر في الاصول أم لا؟ في هذه المسالة قالوا: الأصل في هذه الواجبات الشرعية هو التوصلية، كونها تعبدية يحتاج إلى دليل - من أصالة التوصل في الواجبات الشرعية.
فمحصل كلامه «قده»: أنّ التستر شرط لا جزء، وأن مبغوضية الشرط لا تنافي صحة العبادة لأنّ المقربية إنما تعتبر في اجزائها لا في شرائطها.
ويظهر من عبارة سيدنا «قده» في «المستند، ج12، ص132» أنه ارتضى جواب سيد المستمسك فتبعه في الجواب.
ولكن كما ذكرنا كما سبق: هنا بحثان:
إذ تارة: نبحث في أنّ مجمع الأمر والنهي هل هو من موارد اجتماع الأمر والنهي.
وتارة: نبحث هل أنّ المبغوض مقرب أم لا؟ فهنا بحثان.
والملاحظ: أن سيد المستمسك اتجه إلى البحث الثاني. والكلام واقع أيضاً في البحث الأول.
وبيان ذلك:
أنّ على مبنى المحقق النائيني «قده»: من أنّه إذا كان مجمع الأمر والنهي واحدا وجودا فلا يعقل اجتماع الأمر والنهي سواء كان الأمر توصلّياً أو تعبديّاً، المسالة لا ربطب لها بالتوصلي والتعبدي وعدم ذلك، فاذا افترضنا ان التستر بنفسه غصب، والتستر بنفسه مأمور به لأنه شرط من شرائط صحة الصلاة فهذا الوجود الواحد لا يعقل ان يكون مأمورا به أو منهيا عنه مع غمض النظر عن كون الأمر تعبديّاً أو توصليّاً. فمقتضى عدم معقولية اجتماع الأمر والنهي في واحد بالوجود تعارض دليل الأمر مع دليل النهي، وحيث إنّ دليل الأمر بدليٌ لأنه أمر بالصلاة عن ستر للعورة على نحو صرف الوجود، بينما دليل النهي دليل شمولي وهو قوله لا تغصب، والشمولي مقدم على البدلي فلا محالة يكون هذا التستر منهياً عنه.
بل لو فرضنا القول بالجواز - بجواز اجتماع الأمر والنهي حتى لو كان الوجود واحداً - فمع ذلك على مبنى المحقق النائيني «قده» الذي ارتضاه سيد المستمسك وسيدنا الخوئي «قدس سرهما» من ان الأمر بالطبيعي متقوم بالترخيص في التطبيق. مثلاً: الأمر بطبيعي الصلاة متقوم بالترخيص في تطبيق هذا الطبيعي على الفرد فلا تصح الصلاة بمجرد الأمر بالطبيعي بل إنما تصح الصلاة بالامر بالطبيعي المرخص في تطبيقه على هذا الفرد، فإذا افترضنا ان هذا الفرد منهي عنه لم يشمله الأمر الطبيعين فالامر بطبيعي الصلاة مثلا لا يشمل النهي في مواطن التهمة إذا كان ذلك محرّماً، لأن الأمر بالطبيعي لا يكفي في الشمول للفرد ما لم يقترن بالترخيص في تطبيق هذا الطبيعي على هذا الفرد، والمفروض ان النهي مانع من الترخيص في التبطيق. إذا فالأمر بطبيعي التستر لا ينطبق على هذا الستر لوجود النهي، فمع وجود النهي لا يشمله الأمر بطبيعي التستر كي يكون مصداقاً لما هو المأمور به.
إذاً فمع غمض النظر عن كون الأمر توصليا أو تعبدياً فهناك مشكلة قائمة قبل مسألة المقربية وعدمها وهي مشكلة اجتماع الأمر والنهي أو شمول الأمر بالطبيعي لمثل هذا الفرد.
الجواب الثالث: ما تعرّض له جمع من الاعلام، منهم: السيد الشهيد في «بحوثه في الاصول» وبعض الاعلام في «تعاليقه المبسوطة على العروة»، ويمكن أن يظهر أيضاً من كلام سيدنا الخوئي «قده» في «بحث الصلاة»، ومحصله: ان ما هو متعلق الأمر غير ما هو متعلق النهي، فما هو متعلق النهي لكونه غصباً هو نفس الستر، يعني الفعل الصادر من المتستر المسمى بالستر. وأما ما هو المأمور به بالامر الصلاتي - توصليّاً أو تعبديّاً - ليس هو الستر وإنّما تقيد الصلاة بكون المصلي مستور العورة، فمحط النهي هو القيد وهو التستر، ومحط الأمر هو التقيد، فكون المصلي مستور العورة هذا هو المأمور به ونفس عملية الستر منهي عنه، والنتيجة: لم يجتمع الأمر والنهي في متعلق واحد.
ولكن، شيخنا الأستاذ «قده» في «بحوثه في الأصول، في بحث الاستصحاب» وإن كان قد جرى وفق كلام سيدنا الخوئي في الفقه، في «بحث الصلاة» جرى على طبق كلامه، وكذلك في «بحث الحج، في شرطية الإباحة في ساتر العورة أثناء الطواف» حيث إنّ سيدنا «قده» في «ج29، موسوعته، ص39» ذكر نفس هذا الاستدلال لإثبات اشتراط الإباحة في ساتر العورة في الطواف. وهو: أن الستر مأمور به لكونه شرطاً في صحة الطواف، ومنهياً عنه لكونه غصباً، فلا يعقل أن يكون المنهي عنه مصداقاً لما هو المأمور به.
ذكر شيخنا الأستاذ «قده»: أنه لا وجه لدعوى أنّ الأمر الصلاتي متعلق بالتقيّد في سائر الشرائط لا في خصوصية ستر العورة أو شرطية القبلة أو شرطية الطهارة. وبيان ذلك:
أن الشرط تارة يكون غير اختياري: كالقبلة، الوقت، فهنا لا محالة يكون متعلق الأمر هو تقييد الصلاة بالقبلة أو تقييد الصلاة بالوقت، فهنا متعلق الأمر هو قرن الصلاة بالقبلة قرن الصلاة بالوقت، لأن نفس القيد غير اختياري كي يقبل تعلق الأمر به.
وأما إذا كان الشرط اختيارياً: كالطهارة، كالاطمئنان، كستر العورة، فإن متعلق الأمر نفس القيد: نفس الطهارة، نفس الاطمئنان، لا أن متعلق الأمر هو تقيد الصلاة بالطهارة أو الاطئمنان أو الستر، بل نفس القيد هو متعلق الامر.
والشاهد على ذلك: أنّ الامام اجرى الاستصحاب في صحيحة زرارة في نفس الطهارة، «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» فأجرى الاستصحاب في نفس الطهارة في نفس القيد. وهذا شاهدٌ على أن ما هو الشرط المأمور به هو نفس القيد ولذلك صار مجرى للاستصحاب. إذ لو كان الشرط هو التقيد - أي تقيد الصلاة بالطهارة - لكان استصحاب الطهارة لإثبات التقيد من الاصل المثبت. فلو كان متعلق الأمر وما هو الشرط هو تقيد الصلاة بالطهارة لما صح اجراء الاستصحاب في نفس الطهار، فإن استصحاب القيد لإثبات التقيد من الأصل المثبت، بينما الإمام أجرى الاستصحاب في نفس الطهارة.
ودعوى: أنّ المقصود بالطهارة: استصحاب عدم حدوث الناقض، يرجعها إلى أمر عدمي، إذ يشك هل حدث البول أم لا هل حدث النوم أم لا؟. فالجاري: عدم حدوث الناقض، لا أن المستصحب هو نفس الطهارة. هذا خلاف ظاهر الرواية.
فالنتيجة: أن ما هو متعلق الأمر الشرطي هو نفس الطهارة، نفس ستر العورة، نفس الاطمئنان.
وبعبارته «قده»: مفاد الأمر الصلاتي «واو الجمع»، أي ان الأمر بالصلاة مع الطهارة مرجعه: إلى الأمر بصلاة وطهارة، لا الأمر بالصلاة المتقيّدة بالطهارة كي يقال بأن استصحاب القيد لا يثبت التقيد.
فإن قلت: إذا فما هو الفرق بين الجزء والشرط من حيث الحقيقة والماهية؟، لأن الجزء ما كان مصبّاً لنفس الامر، مثلاً: الركوع انما اعتبرناه جزءاً لأنه مأمور به بعنوانه، فلو كانت الطهارة والتستر بنفسه محطاً للأمر كان جزءاً، فما هو الفارق بين الجزء والشرط بالنتيجة؟.
فلذلك: من ذهب إلى أن متعلق الأمر نفس العنوان في الاجزاء بينما متعلق الأمر بالشرائط التقيد لأجل أن يكون هناك فارق بين ماهية الجزء وماهية الشرط.
قلت: لا فرق بين الجزء والشرط من حيث تعلق الأمر به. فالشرط متعلق للأمر والجزء متعلق للامر، إلّا أنّ الأمر تعلق بالجزء من حيث كونه صلاة، فالأمر تعلق بالركوع من حيث كونه صلاة، بينما الأمر تعلق بالطهارة لا من حيث كونها طهارة، بل من حيث كونها محققة للصلاة الصحيحة، فاختلفت حيثية تعلق الأمر.
فالفارق بين الجزء والشرط مع أن كليهما متعلق للأمر: ان متعلق الأمر في الجزء من حيث كونه صلاة، واما متعلق الأمر للشرط من حيث كونه محققا للصلاة الصحيحة أو الصلاة المأمور بها.
فبناءً على هذا التحليل: يرد إشكال اجتماع الأمر والنهي، فإن الستر بنفسه مأمور به لكونه شرطا، والستر بنفسه منهياً عنه لكونه غصباً، ولا يُعقل أن يكون المنهي عنه مصداقاً لما هو المأمور به.