الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/07/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: أصالة الاحتياط
 أقول: تقدّم منّا بحث الشكّ في إطلاق هيئة الوجوب أنّها تعيينيّة أو تخييريّة أنّها تدلّ على التعيين، وذلك البحث هو في صورة ما إذا أوجد دليل لفظي، فإن كان دالّاً على التعينيّة فهو وإذ دلّ على التخيير بين شيئين فهو، إن شكّ في دلالته على التعيين أو التخيير بينه وبين غيره فقد قلنا إنّ الأصل يدلّ على التعيين، لأنّ التخيير يحتاج إلى لفظة أو في معناه لعدم لزوم الجمع بين الأطراف، بخلاف التعييني، فلا يحتاج إلى لفظة أو ما في معناها، فلاحظ.
 أمّا البحث فهو في صورة عدم وجود دليل لفظي فما هو الاصل العملي هنا؟ هل يقتضي التعيين أو التخيير؟
 وهذا البحث يرجع أيضاً إلى بحث الاقل والأكثر في بعض صوره وهو صورة «ما يدخل في العهدة» كما إذا دار الأمر بين وجوب الإكرام مطلقاً ووجوب إكرام مخصوص «كالإطعام» أو دار الأمر بين وجوب إطعام حيوان بالمعنى الشامل للإنسان او وجوب إطعام حيوان خاص كالإنسان.
 وهنا الصحيح هو: أنّ الجامع هنا بما أنّه جامع حقيقي فهو مطلوب ولو في ضمن قسم من أقسامه، وحينئذ يحصل الانحلال الحقيقي ونرجع إلى البراءة عند الشكّ في الزيادة.
 أو يقال بالانحلال الحكمي: بأنّ الأصل يجري في الأكثر دون الأقل، فيجري الأصل «البراءة» في خصوص الإطعام من الإكرام دون جريان الأصل في مطلق الإكرام لأنّ البراءة أصل امتناني يجري لرفع الضيق، أمّا الإطلاق فليس فيه ضيق، فلاحظ.
 والتخيير هنا تارة يكون عقليّا وتارة يكون شرعيّا:
 اما دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي: كما إذا علم بوجوب الإكرام اما لطبيعي طالب العلم أو النوع خاص منه وهو طالب العلوم الدينية، وكما لو علم بوجوب أكرام زيد إما مطلقا ولو مع غيره أو اكرامه بالخصوص.
 وهنا تجري البراءة عن الأخص، ولا يجب الاحتياط بإتيان الأخص وذلك لأن هذا العلم الإجمالي منحلّ حكماً وذلك:
 لأن البراءة تجري عن التعيين (الأخص) لأنّه في مؤونة زائدة عند الشكّ فيها ترفع هذه المؤونة الزائدة، ولا يعارضها الأصل عن وجوب الخيير، لأن البراءة عن وجوب التخيير (أكرام أي طالب علم) أو (أكرام زيد ولو مع غيره) مع الإتيان بالتعيين فهو غير معقول، لعدم معقولية ترك التخيير مع الإتيان بالتعيين. وان أريد بالبراءة التأمين في حالة ترك التخيير وترك التعيين بترك التخيير رأسا فهذا أيضاً غير ممكن لأنه مخالفة قطعية ولا يمكن التأمين بالنسبة إليها.
 وبهذا نعرف ان البراءة عن وجوب التخيير لا تجري، والذي يجري هو البراءة عن وجوب التعيين( [1] ) وهذا معناه التخيير، ولا يجب الاحتياط بالتعيين.
 واما دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي:
 كما لو علم بصلاة الجمعة في عصر الغيبة وشك في كونها واجبا تعينيّا أو تخيريّاً بينها وبين صلاة الظهر. فعلى المبنى القائل بان التخيير الشرعي يرجع إلى وجوبين مشروطين وشرط كل منهما ترك متعلق الآخر، فإذا علم بوجوب العتق ودار الأمر بين كونه واجبا تعينيّاً أو تخييريّاً بينه وبين الإطعام، فالعتق يكون واجباً مشروطاً بترك الإطعام، وكذلك الإطعام يكون واجباً بشرط ترك العتق.
 وحينئذٍ يكون العلم بوجوب العتق في حال ترك الإطعام، والشك في وجوب العتق حال فعل الإطعام، أي يكون الشك في وجوب العتق مطلقا أو مشروطا؟ فينحل إلى العلم بوجوب العتق في حال تحقق الشرط والشك فيه حال عدم تحققه فتجري البراءة عن العتق عند فعل الإطعام وهذا معناه التخيير.
 وبتعبير آخر ان البراءة عن التعيين لا يعارضها البراءة عن التخيير لأن البراءة عن التخيير اذا جرت مع فعل المعين فهو غير معقول وان جرت مع عدم اتيان المعيّن فهو مخالفة قطعية لا تجوز.
 وعلى المبنى القائل: بان التخيير الشرعي يرجع إلى التخيير العقلي بان يكون الواجب عنوان أحدهما، فإذا قلنا ان المهم لنا هو ما يدخل في عهدة المكلَّف، ونحن قد علمنا بوجوب احدهما وشككنا في الخصوصية التعينية، فتجري البراءة عن الخصوصية التعينية أيضاً.
 وهذا مشكل لأن المعين هو واجب (بعنوان واقع خارجي) وأما الواجب في الواجب التخييري فالواجب عنوان احدهما، فلا يكون لنا علم بوجوب احدهما، لأن احدهما الأولى (الواقع الخارجي المعين) غير احدهما الثانية (العنوان الانتزاعي).
 ولذا نقول (كما هو الصحيح) ان البراءة تجري في احدهما المعيّن، ولا تجري في طرف التخيير لأن جريانها مع اتيان احدهما المعين غير معقول، وجريانها عن ترك كلا طرفي التخيير مخالفة قطعية لا تجوز فيحصل الانحلال الحكمي لا الحقيقي.
 دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال لأجل التزاحم:
 نعم: ان صاحب الكفاية الذي اختار في بعض موارد الواجب التخييري رجوعه إلى وجود غرضين لزوميين فعليين للمولى لكنهما متزاحمان في مقام التحصيل بمعنى ان استيفاء احد الغرضين يعجّز المكلّف من استيفاء الغرض الآخر، ولهذا يحكم المولى بوجوب كلّ من الفعلين مشروطا بترك الآخر. فالصحيح هنا «دوران الأمر بين التعيين والخيير» هو وجوب الاحتياط لأن الشك في وجوب العتق تعيينا أو تخييرا يرجع إلى الشك في ان الإطعام هل يعجّز عن استيفاء غرض العتق ام لا، وهذا من الشك في القدرة الذي تجري فيه أصالة الاشتغال فيجب العتق فلاحظ( [2] ).
 ومثاله الآخر هو ما إذا كان هناك غريقان يحتمل كون احدهما بعينه مرجعا مثلا أو نبيّاً ولم نتمكن الا من إنقاذ أحدهما فيدور الأمر بين وجوب إنقاذ المرجع أو النبي تعيينا أو تخييراًَ بينه وبين الآخر؟ وهنا يجب الاحتياط لأن التزاحم في مقام الامتثال( [3] ) يوجب سقوط احد التكليفين عن الفعلية لعجز المكلف عن امتثالهما، فإذا كان أحد الفعلين معلوم الأهمية فيكون التكليف الفعلي متعلقا به بحكم العقل.


[1] ـ وواضح أنّ التعيين هو الذي يحتاج إلى مؤونة زائدة حيث يكون الوجوب منصبّاً على إكرام زيد لوحده وبخصوصه، أمّا إكرام زيد مخيّراً فيه بين إكرامه مع الغير أو إكرامه لوحده ليس فيه مؤمنة وسعة واسعة لا تجري فيها البراءة لأن البراءة تجري عن الضيق وما فيه مؤونة أمّا ما ليس فيه مؤونة فلا تجري فيه البراءة، فلاحظ..
[2] ـ راجع بحوث في علم الأُصول 5 / 356 وص 325.
[3] ـ التزاحم في مقام الامتثال لا يكون بين أصل الجعلين، لأنّه لا مانع من أن يكلّف المولى بتكليفين كلّ منهما مشروط بالقدرة، وإنّما يكون التزاحم بين إطلاقي الجعلين في مقام الثبوت، فجعل وجوبين كل منهما مشروط بالقدرة لا مانع منه، إنّما المانع هو إطلاق كلا الجعلين، لأنّ الإطلاق يعني كون الواجب في الأخر ثابتاً حتّى عند الإتيان بالثاني، فلو أحرزنا التساوي بين الغريقين من ناحية ملاك وجوبهما ـ أي علمنا أن لا مزية لأحدهما على الآخر فهنا يسقط كلا الإطلاقين فيكون كل منهما مشروط بعدم الإتيان بالآخر، أمّا إذا احتملنا المزيّة لأحدهما أو علمنا مزيّة أحدهما فيسقط غطلاق الآخر بخصوصه ويبقى إطلاق الأهم أو محتمل الأهميّة وهو الاحتياط.