الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/06/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: البراءة الشرعية
 وأستدل أيضاً على الاحتياط بقوله () «قف عند الشبهة فان الوقوف عند الشيء خير من الاقتحام في الهلكة».
 ويرد عليه: ان الوقوف الذي في مقابل الاقتحام في الهلكة يكون بمعنى ليس هو الاحتياط «أي الاجتناب لمحتمل الحرمة أو فعل محتمل الوجود» وإنّما يراد به التريّث والمدرك العقلي والشرعي للعمل، لأن الاقتحام هو بمعنى الأقدام بلا تريّث ولا مبالاة، والأوّل مأمور به والثاني منهي عنه، لأنّه شأن من لم يهتمّ بالدين وبالموازين العقلائية وهذا أمر متفق عليه ولا علاقة له بما نحن فيه.
 على أن الشبهة لا يراد منها الشك بل بمعنى التشابه والتماثل، وقد ورد عن الإمام () وإنّما سميّت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحقّ( [1] ).
 فالمراد من الشبهة البدعة التي تشبه الحقّ.
 وأما أخبار التثليث «أمر بين رشده، أمر بين غيّه، والآخر اختلف فيه فردّه إلى الله»( [2] ). يراد منه المختلف المتلبِّس بالحق، وهو غير ما نريد إثباته من البراءة استناداً إلى رفع ما لا يعلمون وأمثالها.
 أقول: إنّ ما هو بيّن الرشد الذي يتّبع وما هو بيّن الغيّ الذي يجتنب هو المرتبط بباب إمضاء العقل العملي في مستقلاته، فالقسمان ليس هما بيّن الحليّة وبيّن الحرمة والمشكوك المختلف في حليّته وحرمته كما في بحثنا هذا، بل المراد بيّن الرشد وبيّن الغيّ.
 وهما أنسب بباب الحسن والقبح الهداية والضلال، من باب الحسن والحلّ والحرمة، فالظاهر أو المحتمل: أنّ ما استقل عقلك برشده وحسنه كعدالة والأمانة فارتكبهما واتبعه، وما استقل عقلك بغيّه وقبحه كالظلم والخيانة فاتركه، وما اختلف فيه «أي لم يكن من مسلّمات العقل العملي» فردّه إلى الله تعالى ولا تعتمد على ذوقك واستحسانك وظنّك وتخمينك.
 وقد يقال: إنّ عندنا نصّ آخر لأخبار التثليث وهو نصّ النعمان بن بشير ـ وهو صحابي منحرف ـ ورويت الرواية مرسلة في كتاب عوالي اللائالي فعن النعمان بن بشير قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: حلال بين، وحرام بين، وبينهما شبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرى لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ألا وان لكل ملك حمى، وان حمى الله محارمه»( [3] ).
 فلو قلنا: إنّ المراد من القسم الثالث وهو الشبهات هو اجتنابها كما يقول مَن قال بالاحتياط ووجوبه، فصار حكم القسم الثالث نفس حكم الثاني، وهذا غير عرفي وكذا من قال بالحليّة فصار الثالث حكمه حكم الأوّل، ومن هنا نعرف أنّ المراد من اتّقاء الشبهات ليس هو الحكم باجتنابها أو الحكم بفعلها، بل نّ القسم الثالث مشكل فتوقّف فيه إذ فيه جهتان لا نأخذ بأيّ واحدة منهما، إذ الأخذ بأي منهما يكون بدون حجّة وهو غير جائز، ومعنى هذا أنّ هذا الفعل وارد مورد الدلالات، فهناك دلالة مبيّنة من الروايات في الصحّة أو الحليّة فنتبعها، وهناك دلالة بيّنة من الروايات في عدم الصحة أو الحرمة فتجنّبها، وهناك ملتبس فيرد إلى الله تعالى أي لا يؤخذ باحتمال الصحة ولا احتمال عدم الصحة ولا باحتمال الحليّة ولا باحتمال عدم الحليّة.
 إذن هذه الرواية تقول: إنّ الأمر المشكل ذو الوجهين لا يجوز الاعتماد على أحد وجهيه، ولا ربط لها بما نحن فيه من ناحية الشكّ في الحكم الشرعي فنحن لا نرجّح احتمال الحلّ على احتمال الحرمة، بل نعتمد على رفع ما لا يعلمون وأمثالها، فلاحظ.
 على أنّ كبرى الاستبراء لم يثبت وجوبها كما تقدم ذلك.
 ثم لو سلمنا دلالة وجوب الاحتياط في موارد الشك في التكليف كان الرجحان في جانب البراءة وذلك لوجوه أهمها:
 1 ـ «إن دليل البراءة قرآني قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ودليل وجوب الاحتياط من أخبار الآحاد، وكلّما تعارض هذان القسمان قدّم الدليل القرآني القطعي ولم يكن خبر الواحد حجة في مقابله»( [4] ).
 2 ـ «إن دليل البراءة لا يشمل حالات العلم الإجمالي، ودليل وجوب الاحتياط شامل لذلك، فيكون دليل البراءة أخص فيخصصه»( [5] ).
 3ـ إنّ أخبار البراءة لا تشمل ما قبل الفحص بخلاف أخبار الاحتياط، فتكون أخبار البراءة أخصّ.
 4ـ كما يمكن أن نرجّح أدلة البراءة على أدلة الاحتياط، وذلك لأنّ أدلة البراءة توافق الكتاب لما تقدّم من أنّ الكتاب الكريم يدلّ على البراءة لا الاحتياط، وهذا المرجّح هو أسبق من مخالفة العامّة، حيث قالوا بأنّ العامّة تعمل بالبراءة في الشبهات الحكمية على فرض صحّة النسبة لهم.
 أقول: إنّ هذا المرجّح يرجع إلى المرجّح الأوّل فلاحظ.
 5ـ وتقدمّ منا في صورة عدم الترجيح والتساقط الرجوع إلى العموم الفوقاني المستفاد من رواية عبد الأعلى( [6] )، «من لا يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال: لا» وصحيحة عبد الصمد «أي رجل ركب امرأ بجهالة فلا شيء عليه»( [7] ). اللذان يدلان عن البراءة بعد تساقط أدلة البراءة والاحتياط.


[1] ـ نهج البلاغة: 81 .
[2] ـ حديث: 45.
[3] ـ عوالي اللئالي1: 89، الفصل الخامس ما يتعلّق بمعالم الدين ح24 ،مستدرك الوسائل باب12 من صفات القاضي ح7، ورواية منقطعة في سند يذكره صاحب الوسائل عن الشيخ الطوسي ج18: باب 12 من صفات القاضي ح40، وموجود في جامع أحاديث الشيعة:1، باب8 من المقدمات ح43، وليس من الصحيح ما يدعى في كتب الأصول من أنّ حديث التثليث متواتر لا يحتاج إلى مراجعة سنده إذ أنّه روي عن ثلاثة: أحدهم نعمان بن بشير وهو مقطوع بفساده، والثاني عمر بن حنظلة وهناك بحث في وثاقته، والثالث شخص لم تثبت وثاقته، فلاحظ.
[4] ـ دروس في علم الأُصول 1: 389.
[5] ـ المصدر نفسه 1: 389.
[6] ـ كافي 1 : 164 باب حجج الله على خلقه ح 2 / 11.
[7] ـ وسائل الشيعة باب 5 من تروك الإحرام / ح 3.