الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/06/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: البراءة الشرعية
  (3) واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ...( [1] )، فأن الرد إليهم عبارة عن التوقف مثل قف عند الشبهة.
 ويرد عليه: ان الآية أجنبية عن الاحتياط لان الوارد فيها ليس هو عنوان الشك بل عنوان المنازعة والمخاصمة. على أن الرد إلى الله والرسول: هو عبارة عن تحكيم أمرهم وشريعتهم وعدم الاحتكام إلى أهواء الناس وهذا يدلّ على ان الآية أجنبية عن الاحتياط.
 (4) واستدلوا بقوله تعالى: اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ( [2] )، فأن غاية التقوى يقتضي الاجتناب في الشبهات وعدم اقتحامها.
  ويرد عليه: ان التقوى إنّما تصدق بعد تنجيز التكليف والعقوبة فلا تشمل موردنا.
 (5) واستدلوا بقوله: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...( [3] )، الناهية عن الإفتاء بغير علم والإسناد في مورد الشك وعدم العلم.
  ويرد عليه: ان حرمة الإسناد لا كلام فيها، ولكن الفتوى على وفق البراءة لا إسناد فيها إلى الشارع أصلاً، بل هو بيان الوظيفة.
 فإن قيل: كيف لا يكون هنا حكم شرعي مع أنّ المرتكز في الأذهان قاعدة «ما من واقعة إلّا ولها حكم شرعي»؟
 فالجواب: نعم هذا المرتكز إنّما هو في الأحكام الواقعية، ولكنّ المفروض أنّها خفيت علينا، فنرجع إلى ما يكشف عنها إن كان في الروايات، فإن لم يكن ما يكشف عنها فنرجع إلى الأصل العملي وهو الوظيفة العملية للشاك، فالشكّ لم يكن له حكم شرعي واقعي، وليس له حكم شرعي كاشف عن الحكم الشرعي الواقعي فيعطى الوظيفة العلمية.
 (6) واستدلوا بالسنّة الشريفة: ولكن بالإضافة إلى ضعف سندها فهي اما يستفاد منها الترغيب في الاحتياط مثل المرسلة (من أتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه) ( [4] ).
 إذ لم يبيّن فيها كبرى وجوب الاستبراء.
 ومثل أخوك دينك فأحتط لدينك بما شئت( [5] ).
 ودلالتها على الرجحان واضحة من الذيل وهو قوله بما شئت، إذ لا معنى لتعليق الواجب بمشيئة الإنسان.
 ومثل أورع الناس من وقف عند الشبهة( [6] )، إذ لا يدل هذا على وجوب الورع.
 وقد يستفاد من أدلّة الاحتياط التي ساقوها للاحتياط: لزوم الرجوع إلى الأئمة وعدم جواز تجاوزهم واعتماد الرأي والاستحسانات العقلية في أستنباط الحكم الشرعي مثل: لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون الاّ الكفّ عنه والتثبت والردّ إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحق قال تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ( [7] ).
 وهذه الرواية لا دليل فيها على وجوب الاحتياط، إذ تقول: إذ كنت لا تعلم حكم الواقعة فتثبّت وارجع إلى أئمّة الهدى ولا ترجع إلى الرأي والاستحسانات العقلية، وهذا لا ربط له بوجوب الاحتياط إذ عندما شككنا في الحكم الشرعي نرجع إلى ما قاله أئمّة الهدى من صحيحة عبد الأعلى وعبد الصمد «من لا يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال: لا»، وأيّما رجل ارتكب أمراً بجهالة فلا شيء عليه» والى «رفع ما لا يعلمون» وأشباهها من البراءة.
 ومن أدلة الاحتياط التي ساقوها له: ما يفهم منها الوقوف حتى ملاقاة الإمام () كما في قوله في مقبولة عمر بن حنظلة (فأرجئه حتى تلقى أمامك) فهذا أجنبي عن محل النزاع، لأنّ الوقوف عند الشبهة ليس بمعنى وجوب الاحتياط.
 ومن أدلة الاحتياط: ما يدل على تحريم القول بلا علم كرواية زرارة عن الصادق () «لو ان العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»( [8] ).
 ومثل خبر زين العابدين قال: لأبان بن عياش: يا أخا عبد قيس وإن وضح لك أمر فاقبله وإلاّ فاسكت تسلَمْ ورد علمه إلى الله فأنك أوسع مما بين السماء والأرض( [9] )، على أنها تنظر إلى أصول الدين وأنكار الولاية.
 واستدل على الاحتياط بما كتبه عثمان بن حنيف وإلي عليّ على البصرة بما كتبه إليه عليّ: وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عَائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوا فأنظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما أشتبه عليك فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
 ولكن يرد عليه: بالإضافة إلى أنها خاصة بالولاة والحاكمين على الناس الذين ائتمنوا على أموال المسلمين ودمائهم من قبل الإمام، والأمر يحتاج احتياط أكثر يراد منه ان هذه الدعوات ليست قربة إلى الله تعالى بل لأجل التملّق للحاكم والارتشاء، فالوالي والحاكم حيث إنّه في معرض ان يُتملّق له او يرشى فقد حرّم الله عليه تناول الإحسان من شخص ما لم يعلم بطيب وجهه من أنّه لأجل عودته من مكّة مثلاً أو لزواج ابنه وأمثال ذلك ككون ابن حنيف رجلاً صحابياً مؤمناً، وليست الدعوة لأجل الرشوة وأمثالها.
 فهذه الرواية لا يراد منها إلغاء قاعدة اليد بالنسبة للداعي أو كون ابن حنيف يشكّ في غصبية المال، بل بما أنّ الغني هو المدعو والفقير هو المجفوّ فهذه قرينة ظنّية أو احتمالية على كون الاحسان هو للتملّق والارتشاء، ولهذا أوجب عليه الاحتياط، فلا يقاس على هذا المورد غيره، خصوصاً أنّ الشبهة موضوعية ولا إشكال في عدم الاحتياط في الشبهة الموضوعية حتّى عند الإخباري، فلاحظ.


[1] ـ سورة النساء : 59.
[2] ـ سورة آل عمران: 102.
[3] ـ سورة الإسراء : 36.
[4] ـ جامع أحاديث الشيعة: باب 8 أبواب المقدمات، ح 19.
[5] ـ ح : 30
[6] ـ ح : 33 .
[7] ـ حديث : 19.
[8] ـ حديث: 47.
[9] ـ حديث : 18.