الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/05/24

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: البراءة الشرعية
 3ـ قد ندعي أنّ الآية إذا دلّت على نفي استحقاق العقاب الدنيوي إذا لم يبيّن لنا التكليف فإنّها تدلّ على نفي استحقاق العذاب الأخروي بالأولوية، فإنّ العذاب الدنيوي الذي هو أهون من العذاب الأخروي لكونه خفيفاً منقطعاً بخلاف الأخروي فعدم العذاب في الأقل الزائل من دون بيان يستدعي قطعاً عدم العذاب في القوي الدائم بدون بيان، فلاحظ.
 ولكن يرد على الآية: انها تنفي المسؤولية عند عدم صدور بيان من الشارع، اما مع صدور البيان وعدم وصوله إلينا فلا نفي للمسؤولية في الأبد ونحن نريد البراءة في الصورة الأخيرة فلا تدل الآية عليها.
 3) قوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( [1] ).
 «وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة: أن الله تعالى لقّن نبيه () كيفية، المحاججة مع اليهود فيما يرونه محرّما بأن يتمسك بعدم الوجدان، وهذا ظاهر في أنّ عدم الوجدان كافٍ للتأمين»( [2] ).
 الا أنه يناقش فيه: بأنّ موضوع الآية المباركة عدم وجدان النبي () لشيء خاص محرّماً في جميع ما أُوحي إليه الا المذكورات في الآية، وعدم وجدانه فيها عبارة أخرى عن أنه تعالى لم يوح إليه حرمته فلم يشرّع واقعا وهو الذي يناسب التخاصم مع أهل الكتاب فمثله ليس محكوما بالحرمة، لكنه لا يدل على انتفاء الحرمة عمّا لم يصل حرمته إلينا، لظلم الظالمين وعدم كتابة الأحاديث بحجة اختلاطها بالنصّ القراني، فنحن نحتمل أن الله أوحى حرمته إلى الرسول وبينّه هو أو الأئمة () ولم يصل إلينا، فلعل مثله كان مما يجب فيه الاحتياط، لا البراءة. فلا تدل الآية على البراءة الشرعية عند الشك في الحكم الشرعي فلاحظ.
 وبعبارة أخرى: إنّ عدم الوجدان مرّة يكون سبباً لعدم العلم كما يكون مرّة سبباً للعلم بالعدم.
 وعدم الوجدان غالباً يوجب عدم العلم «الشكّ مع احتمال الصدور» فيكون دليلاً على البراءة عند الشكّ في الحكم، ولكن هنا في هذه الآية يكون عدم الوجدان سبباً للعلم بالعدم «لا لعدم العلم»، لأنّ عدم وجدان الرسول لما أوحي إليه يعني عدم التشريع قطعاً لأنّه المعصوم الذي لا ينسى ولا يغفل ولا يضيع عنده شيء فيكون عدم الوجدان مؤدّياً إلى العلم بعدم التشريع، فتكون الآية دليلاً على أصالة الإباحة عند العلم بعدم صدور بيان من الشارع وتكون أجنبية عن أدلة البراءة الشرعية، فلاحظ.
 4) قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( [3] ).
 «وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة: أن المراد بالإضلال فيها، اما تسجيلهم ضالين ومنحرفين، وإما نوع من العقاب كالخذلان والطرد من أبواب الرحمة، وعلى أيّ حال، فقد أُنيط الإضلال. ببيان ما يتقون لهم، وحيث أُضيف البيان لهم فهو ظاهر في وصوله إليهم، فمع عدم وصول البيان لا عقاب ولا ضلال، وهو معنى البراءة»( [4] ).
 ويرد عليه: إنّ بيان ما يتقونه يصدق بمجرد البيان لجمع وإن لم يصل إلى شخص خاص منهم، وعليه فلا تتم دلالة الآية على نفي العذاب عن مثل هذا الشخص الجاهل. وكذا يصدق بيان ما يتقونه إذا بينه للأوائل وضيّعة الأواخر بعدم حفظه وكتابته فلم يصل للأواخر، فلا دلالة على نفي العذاب عن المتأخرين الذين ضيّعوا.
  واما السنة: فقد استدل على البراءة الشرعية، منها بروايات عديدة:
 1 ـ ما روي عن الإمام الصادق () من قوله: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»( [5] ). وفي عوالي اللئالي «حتى يرد فيه نصّ» «والإطلاق يساوق السعة والتامين، والشاك يصدق بشأنه أنه لم يرده النهي فيكون مؤمّنا عن التكليف المشكوك وهو المطلوب»( [6] ).
 ولكنه يناقش: بان الورود يصدق بمجرد أن يقول النبي أو المعصوم الحرمة وان لم تصل إلى المكلف الخاص ومع هذا لا تقتضي الرواية تأمين هذا المكلَّف لأنها بمعنى كل شيء مطلق حتى يصدر فيه نهي، وهذا ليس وصولاً.
 ولكن يمكن ان نقول: ان الورود سنخ معنى يستبطن الوفود على الشيء فهو معنى نسبي بحاجة إلى طرف يضاف إليه فلا يطلق على مجرد الصدور.
 ويرَّد بعدم تعيين أن يكون الملحوظ هو وفود النهي على المكلَّف بل المناسب للآية هو وفود النهي على الشيء نفسه فالنهي وارد على المادة، وهي المورود عليه. ولو فرض ورود التكليف على المكلَّف فيحتمل قوياً أرادة الوفود على جنس المكلفين (أي الأمة) لا كل مكلّف مكلف، فيكون الورود بمعنى الصدور، وعلى هذا لا يكون عدم الورود لنا مساوقاً مع البراءة الشرعية.


[1] ـ سورة الأنعام: 145.
[2] ـ دروس في علم الأصول 1: 375، وراجع نهاية الأفكار 3: 207.
[3] ـ سورة التوبة: 115.
[4] ـ دروس في علم الأصول 1: 375 وراجع نهاية الأفكار 3: 206 ـ 307.
[5] ـ وسائل الشيعة باب 12 من صفات القاضي/حديث 60.
[6] ـ دروس في علم الأصول 1: 376.