الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/03/19

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: قاعدة: حجيّة الخبر المتواتر
 الألفاظ الأخرى للقاعدة
 توضيح القاعدة: إن الخبر على قسمين رئيسيين: الخبر المتواتر، وخبر الواحد.
 والخبر المتواتر: ما أفاد سكون النفس سكوناً يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع من أجل إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، أو صدورهم جميعاً عن خطأ أو اشتباه أو خداع حواس وما شاكل ذلك.
 ويقابله خبر الواحد في اصطلاح الأصوليين وإن كان المخبر أكثر من واحد، ولكن لم يبلغ المخبرون حدّ التواتر بحيث يوجب إخبارهم العلم( [1] ).
 وقد عرّف الخبر المتواتر أيضاً بأنه «اجتماع عدد كبير من المخبرين على قضية بنحو يمتنع تواطؤهم على الكذب نتيجة كثرتهم العددية».
 وينحلّ هذا التوضيح للقضية المتواترة إلى قضيتين:
 الصغرى: اجتماع عدد كبير على الإخبار بقضية معينة، وهذه قضية خارجية.
 الكبرى: امتناع تواطؤهم على الكذب، وهذه قضية عقلية أوليّة وليست مستمدة من الخارج والتجربة. وهذا دليل قياسي استنباطي نتيجته إن القضية المتواترة حقّ وصدقّ [2]
  [3] (وهذه النتيجة مستبطنة في المقدمات وليست أكبر من المقدمات) بخلاف الاستدلال الاستقرائي التي تكون النتيجة أكبر من المقدمات.
 ولهذا قد جعلوا (حسب هذا المنطق الأرسطي) القضية المتواترة من القضايا الست الأولية لأن كبراها عقلية أوليّة، هذا ولكن السيد الشهيد لم يرتضِ المنطق المتقدم، إذ نفى أن تكون الكبرى في باب التواتر عقلية أوليّة تقتضي بامتناع التواطؤ على الكذب، بل ذكر أن هذه الكبرى قضية تثبت بالاستقراء والمشاهدة، فلو قطعنا النظر عن علمنا الخارجي الناشئ من التجربة والمشاهدة على عدم التواطؤ على الكذب من جمع غفير، فاننا نحتمل التواطؤ على الكذب من جمع غفير، اذن نفيُنا للتواطؤ على الكذب من جمع غفير إنّما حصل بعد التجربة والمشاهدة لعالم الخارج وليس حكماً عقليّاً مثل استحالة اجتماع النقيضين.
 وحينئذٍ ما دامت الكبرى في القضية المتواترة تجريبيّة تنشأ من التجربة والمشاهدة لعالَم الخارج فتكون محكومة لقوانين المنطق التي تحكم على التجربة والاستقراء وهي قوانين حساب الاحتمال، اذن روح القضية المتواترة هو روح القضية التجريبية وملاكهما واحد.
 وقد أورد السيد الشهيد دليلاً واحداً على أن القضية المتواترة ليست عقلية في بحثه الأصولي( [4] )، وهو أن مفردات كل قضية متواترة (أو تجريبية) يكون احتمال الصواب والمطابقة فيها أكبر كان حصول اليقين بالنتيجة أسرع وأشد، ففرق مثلاً بين شهادة الف ثقة بوقوع شيء وشهادة الف مجهول وجداناً، وهذا معناه أنّ اليقين الحاصل من القضايا المذكورة يتأثر بالقيم الاحتمالية لكل مفردة من مفرداتها لا بقاعدة عقلية قبلية موضوعها كمّ معيّن( [5] ).
 ثم نرجع إلى التعريف: لنرى أنّ الكثرة العددية هي جوهر التواتر، ولكن لا يمكن تحديدها في رقم معيّن كما حاوله بعض الفقهاء فحدد الكثرة العددية بتحديدات مضحكة وصفها الشهيد الثاني بسخف القول من قبيل التحديد بأنها (313) بعدد شهداء بدر أو (12) بعدد نقباء بني إسرائيل أو (70) بعدد أصحاب موسى الذين ذهبوا لميقات ربهم أو أكثر من أربعة لئلا تكون البينة في بعض الأبواب الفقهيّة التي يشترط فيها أربعة شهود تواتراً ونحو ذلك.
 ثم قال الشهيد الثاني: بأن الميزان في الكثرة العددية أفادتها العلم.
 وأورد عليه الشهيد الصدر: بأن هذا تفسير الشيء بنفسه كتفسير الماء بالماء. ثم ذكر أن أساس الكثرة العددية التي تفيد العلم في التواتر هو حساب الاحتمالات لا كمّ عددي معين وكان اتجاه التحديد من وحي منطق آرسطو الذي لم يقبله.
 عوامل مؤثرة في إفادة التواتر لليقين:
 وهذه العوامل تنقسم إلى قسمين:
 1 ـ عوامل موضوعية مرتبطة بالشهادات.
 2 ـ عوامل ذاتية مرتبطة بنفسية السامع.
 أما العوامل الموضوعية:
 1ـ درجة الوثاقة والتصديق: فكلما كانت شهادة كلّ مخبر ذات قيمة احتمالية أكبر كان حصول التواتر أسرع وبعدد أقلّ لأن الاحتمالات إذا كانت أكبر للصدق كان تجميعها وبلوغها لليقين أسرع، والعكس بالعكس.
 2ـ الاحتمال القبلي للقضية المتواترة: فكلما كانت قيمة هذا الاحتمال القبلي أكبر كان حصول التواتر أسرع والعكس بالعكس، فإذا أخبر بوجود دجاجة ذات أربع قوائم الذي احتماله القبلي ضعيف جداً كان حصول التواتر ابطأ. ولكن لو أخبرنا بموت فلان المريض الذي كان احتماله موته وارداً فيحصل التواتر بصورة أسرع.
 3ـ تباين الشهود في أوضاعهم الحياتية والثقافية والاجتماعية: فإنه كلما كانوا متباينين فيها أكثر كان حصول التواتر أسرع، حيث يكون احتمال وجود غرض ذاتي مشترك للكذب أبعد واضعف. وهذا شرط افادة التواتر لليقين ذكره العلماء.
 4ـ كيفية القضية المتلقاة: فكلما كانت القضية المتلقاة للمخبرين أقرب إلى الحِس وأبعد عن النظر كان حصول التواتر (اليقين) أسرع والعكس بالعكس. فالتواتر في نزول المطر يحصل بعدد أقل من التواتر في عدالة زيد، لأن القضية الحسيّة يكون احتمال الخطأ والاشتباه فيها أقل.


[1] ـ راجع أصول الفقه 2 : 67 والأصول العامة للفقه المقارن194.
[2] يمكن إعمال هذا القياس الاستنباطي من الشكل الأوّل على هذه الصورة:
[3] اختلاف جماعة كبيرة مختلفة الآراء لا يجمع بينهما جامع على حدوث حادثة خارجية يوجب امتناع تواطئهم على الكذب، وإذا وجب امتناع تواطئهم على الكذب يكون إخبارهم حقّ وصدق، فإخبار جماعة كبيرة مختلفة الآراء ولا يجمع بينهما جامع على حادثة خارجية يكون إخبارهم حق وصدق.
[4] ـ ولكن أورد أدلة متعددة على ذلك في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.
[5] ـ بحوث في علم الأُصول/4/329.