الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/03/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: قاعدة: حجيّة الظواهر
  تقدم: أنّ كلّ شيء يحتاج تفهمه إلى تفرّغ وتخصص وهذا من القضايا العامة، وأنّ عمر الإنسان لا يفي بكلّ هذه التخصصات ولا بجزء منها، فلذا قسّم العمل بين الناس وبرز لكلّ شيء جماعة متخصّصة فيه يُرجع إليهم في تحصيله على أساس الخبرة الحسية أو الحدسية، أمّا القضايا الجزئية ككون زيد عادل أو مالك أو صحيح أو مريض أو قد مات فهذه أمور يمكن أن يطلع عليها كلّ من تصدّى للاطلاع عليها ويرتّب الآثار عليها في الخارج، وهي لا تحتاج إلى تفرّغ وتخصّص، فهذه لا يكفي فيها الحدس، فإن قلنا بعدم كفاية خبر الواحد في الموضوعات فلا بدّ في قبول شهادته من شروط البيّنة إذن التفصيل صحيح بين الأمور العامة والجزئية.
 وحينئذ نقول: إنّ اللغة من القضايا العامة التي تحتاج إلى تفرّغ وتخصّص وذلك، لأنّ اللغوي يحتاج إلى الذهاب إلى القبائل العربية الأصلية في لغتها ويتتبّع موارد الاستعمال عندهم ويلتفت إلى نكات تعبيراتهم، فيستنبط المعنى من الاستعمالات بعد التأمّل فيها وتعيين الخصوصيات الاستعمالية من الخصوصيات الوضعية، ثمّ نقل ذلك إلى الآخرين، إذن السيرة العقلائية في رجوع الجاهل بهذه الأمور إلى العالم بها من أهل اللغة صحيحة وقائمة، كما سيأتي أيضاً أنّ اللغوي يكون خبيراً في تعيين المعاني الحقيقية من المجازية فيكون قوله حجة للعامي لا أنّه حجة على مجتهد آخر في اللغة ومتخصص فيها، فإنّ قول المجتهد لا يكون حجة على مجتهد آخر.
 وقد يقال: بعد إثبات أنّ قول اللغوي حجة في تعيين موارد الاستعمال، أنّه لا أثر لهذه الحجية، لا أنّها لا تفيد الفقيه، بل الذي يفيد الفقيه هو تمييز الظاهر من غير الظاهر أي تمييز الحقيقة عن المجاز كي يترتب الأثر على حجية الظهور فيعمل به أما إثبات موارد الاستعمال فلا يثبت الحقيقة، فلا يثبت الظهور، فلا يجب العمل به.
  والجواب: هناك فوائد عملية في تعيين موارد الاستعمال عند العرب يترتب عليه الأثر في الاستنباط:
 منها: أن تعيين موارد الاستعمال لو كان بنحو الحصر كما إذا قالوا أن هذا اللفظ لا يستعمل الاّ في هذا المعنى المعيّن كان هذا دليلاً على المعنى الحقيقي، وأن يكون هو المراد من النصّ الشرعي، إذ من البعيد أن يكون له معنيان وموردان للاستعمال ويخفى أحدهما على اللغوي.
 ومنها: إن اللفظ إذا لم يحتمل فيه تعدد المعنى، وإنّما كان الشك في سعة معناه وحدوده كما في لفظ الصعيد فإذا اخبر اللغوي باستعماله في معنى واحد محدود بحدود خاصة وهو المعنى الحقيقي الظاهر منه، ثمّ شككنا أنّ هذا المعنى الواحد هل هو عبارة عن التراب أو مطلق وجه الأرض؟ فحينئذ نأخذ بقول اللغوي الناقل للمعنى المستعمل فيه، وليس هذا من باب الرجوع إلى قول اللغوي لتشخيص المعنى الحقيقي، إذن ثبت بذلك الإطلاق في مثل آية التيمم «فتيمموا صعيداً طيباً».
 ومنها: إذا ثبت بتعيينهم موارد استعمال عديدة ثبت إجمال اللفظ وتردده بين أكثر من معنى.
 ولكن لو ثبت أنّ موارد الاستعمال ثلاثة وشخّصها لنا، وقد حصلنا على قرينة شرعية في نصّ شرعي دلّت على أنّ المعنى الأول والثاني غير مقصودين من هذا النص فحينئذ يتعيّن حمله على المعنى الثالث وأيضاً نقول، ليس هذا من تشخيص الحقيقة عن المجاز، بل هو من باب تعيين موارد الاستعمال.
 ومنها: قد يثبت كون المعنى حقيقياً كما إذا لم توجد علاقة بين المعنى الأولى والثاني كاستعمال المولى في السيد وابن العم مثلاً مع فقدان العلاقة المصححة للمجاز بينهما، وحينئذ يكون إرادة أحدهما في النصّ الشرعي بحاجة إلى قرينة تدلّ عليه، وإلّا كان من المجمل.
 ملحوظة: إنّ جواز الرجوع إلى اللغوي من باب رجوع الجاهل إلى العالم يختصّ بمن لا يتيسّر له الاجتهاد في اللغة التي هي موضوع خبرة اللغوي، والظاهر أنّ الفقيه يتيسّر له الاجتهاد في تشخيص الظهور الذي هو المهم في المقام لتيسّر مقومات الاستنباط ولو بعد الرجوع لهم بنحو لا يعلم بأنّهم أوصل من الفقيه في ذلك، ولكن إذا استنبط اللغوي من الاستعمالات الجزئية الكثيرة الجامعَ فلا يتمكن الفقيه من هذه الأداة، وكذا إذا قال: إنّ هذا اللفظ لم يستعمل إلّا في مورد واحد فلا بدّ من تقليده.
 المقام الثاني: في حجية قول اللغوي في تعيين المعنى الحقيقي والمجازي:
 ذكر البعض أنّ اللغويين لم يتصدّوا لتحقيق المعنى الحقيقي من المجازي في كتبهم اللغوية، فنراهم يذكرون موارد الاستعمال، ولا يفرّقون بين الاستعمالات الحقيقية من المجازية، والحقّ معهم لأنّ اللغويين لا وسيلة لهم إلّا الاستماع إلى موارد الاستعمال وتجميع موارده وهذا كما تعلم أعمّ من الحقيقة وبعيداً عن تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي.
 ولكنّ الحقّ: إن اللغوي قد يجتهد في استخراج المعنى الحقيقي مثل أن يلحظ تاريخ استعمال كلمة الأسد في الحيوان المفترس والرجل والشجاع بعد تتبّع موارد استعمالها في الحيوان المفترس وفي الرجل الشجاع، ويرى تقدم الأول على الثاني وأن موارد الاستعمال في الثاني محفوفة بالقرينة دائماً بخلاف الأول، ويرى أن في موارد الاستعمال في الثاني يراد المبالغة في الشجاعة دون الأول، فحينئذٍ تكون هذه القرائن مؤدّية إلى القطع بأنّ كلمة أسد موضوعة للحيوان المفترس وإنّ الرجل الشجاع هو معنى للأسد تبعي ومجازين كما قد يقول اللغوي: إنّ هذا اللفظ لم يستعمل إلّا في معنى واحد فهذا دليل على أنّه هو المعنى الحقيقي.
 إذن قول اللغوي يكون حجّة فيما هو خبير فيه من تمييز المعاني الحقيقيّة عن المجازية للعامي الذي لم يتمكّن من استعمال طريق اللغوي للوصول إلى النتيجة التي وصل إليها اللغوي.
 أقول: كما يمكن للغوي أو المجتهد تعيين المعنى الحقيقي من المجازي حتّى إذا قلنا إنّ استعمال الكلمة في غير ما وضع لها صحيح ويكون مجازاً وإن لم تكن قرينة على المجاز، وإنّ القرينة لا تصحّح استعمال اللفظ في غير ما وضع له، بل تكون القرينة مقومة لانفهام المعنى المجازي لا لصحّة استعمال اللفظ في غير ما وضع له.
 وتوضيح ذلك: إذا رأينا لفظة تستعمل في معنى كثيراً وتستعمل في معنى آخر بقلة، وكلا الاستعمالين بدون قرينة، فنفهم أنّ الاستعمال كثيراً في المعنى الأوّل من دون قرينة هو المعنى الحقيقي،وإنّ الاستعمال في المعنى الثاني بدون قرينة وإن كان صحيحاً إلّا أنّه مجاز وذلك لأنّ الاستعمال في المعنى الأوّل قد شكّل اتجاها عامّاً، فإن قلنا أنّه مجاز وصحيح فينبغي أن لا يشكّل اتجاه عامّاً ونوعياً بينما هو شكّل الاتجاه العام والنوعي فيكون دالّاً على المعنى الحقيقي لأنّ المجاز وإن صحّ بدون قرينة إلّا أنّه لا يشكّل اتجاهاً عامّا ونوعياً.