الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/01/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:

قاعدة: حجية الدليل العقلي
 وأما القول بأن أحكام العقل تستوجب المدح والذم لا الثواب والعقاب فقد قال المرحوم المضفّر هو باطل أيضاً:
 «أولاً: لأن معنى استحقاق المدح ليس إلا استحقاق الثواب، ومعنى استحقاق الذم ليس إلا استحقاق العقاب، لا أنهما شيئان أحدهما يستلزم الآخر، لأن حقيقة المدح المجازاة بالخير لا المدح باللسان، وحقيقة الذم المجازاة بالشر لا الذم باللسان وهذا هو الذي يحكم به العقل ولذا قال المحققون من الفلاسفة (ان مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه)، بل بالنسبة إلى الله تعالى لا معنى لفرض استحقاق المدح والذم اللسانيين عنده.
 وثانياً: ان المدح والذم من القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء كافة، وحينئذٍ إذا كان معنى المدح هو الثواب ومعنى الذم هو العقاب، فحينئذٍ يكون المدح والذم (أي الثواب والعقاب) صالحاً لدعوة كل واحد من الناس إلى الثواب وزجره عن العقاب فنستكشف حكم الشرع، ولهذا مع وجود المدح والذم الذي يحكم به العقل يستحيل توجيه دعوة مولوية من الله تعالى ثانياً لاستحالة جعل الداعي مع فرض وجود ما يصلح للدعوى عند المكلف إلا من باب التأكيد» [1] .
 أقول: ان الحسن والقبح يستتبعان أمرين مختلفين:
 الأول: المدح والذم (أي التحسين والتقبيح للفاعل وسريرته) وهذا يصدر من كل أحد يطَّلع على صدور الحسن أو القبيح من هذا الإنسان.
 الثاني: المجازاة والمكافأة التي يستحقها فاعل القبيح والحسن، وهما الثواب والعقاب، وهذه المجازاة والمكافأة يثبتان لمن هضم حقُّه أو أُحسن بشأنه، أو يثبتان لولي الأمر لتأديب وجلب المصالح. وهذا الكلام وان كان مناقشة لما قاله الشهيد الصدر من أن المدح هو الثواب والذم هو العقاب إلا أنه لا يؤثر في النتيجة من ان المدح والذم المراد من الله ليس هو المدح والذم باللسان بل المدح يلزمه التشويق بالمكافأة والذم هو التأديب بالعقاب، فالعقاب والثواب يطرآن على القبح والحسن الذي فيهما ذم وقبح وليس الثواب والعقاب هو نفس المدح والذم.
 بعض العلماء ذكروا الدليل العقلي وأكثرهم لم يتعرضوا له.
 1ـ قال الشيخ ابن إدريس في السرائر (فإذا فقدت الثلاثة يعني الكتاب والسنة والإجماع فالمعتمد عند المحققين التمسك بدليل العقل فيها)( [2] ).
 2ـ قال المحقق الحلّي في المعتبر ما ملخصه: وأما الدليل العقلي فقسمان أحدهما ما يتوقّف فيه على الخطاب وهو ثلاثة: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، وثانيهما ما ينفرد العقل بالدلالة عليه، ويحصره في وجوه الحسن والقبح...)( [3] )، ويزيد عليه الشهيد الثاني في مقدمة كتاب الذكرى فيجعل القسم الأوّل ما يشمل الأنواع الثلاثة التي ذكرها المحقّق وثلاثة أخرى وهي مقدمة الواجب ومسألة الضدّ وأصل الإباحة في المنافع والحرمة في المضار، ويجعل القسم الثاني ما يشمل ما ذكره المحقّق وأربعة أخرى وهي البراءة الأصلية وما لا دليل عليه والأخذ بالأصل عند التردد بينه وبين الأكثر والاستصحاب.
 أقول:
 أولاً: لم يذكر ابن إدريس المراد من الدليل العقلي الذي ذكره في قبال الكتاب والسنّة.
 وثانياً: يظهر ممّا تقدّم في كلام المحقّق والشهيد الأوّل عدم تجلّي فكرة الدليل العقلي في تلك العصور، بمعنى أنّهم توسّعوا في مفهوم الدليل العقلي إلى ما يشمل الظواهر اللفظية، فإنّ لحن الخطاب هو: مفهوم الموافقة «قياس الأولوية», ودليل الخطاب هو: مفهوم المخالفة، وهذه كلّها داخلة في حجية الظواهر وليس لها علاقة بدليل العقل المقابل للكتاب والسنّة، وحتّى الاستصحاب فإنّه أصل عملي مستقل في قبال الدليل العقلي.
 3ـ قال المحقق القمي في تعريفه لحكم العقل: بأنه (حكم عقلي يوصَل به إلى الحكم الشرعي وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي)( [4] ).
 4ـ قال الشيخ المظفر: (ان علمائنا الأصوليين من المتقدمين حصروا الأدلة على الأحكام الشرعية في الأربعة المعروفة التي رابعها (الدليل العقلي) بينما بعض علماء أهل السنة أضافوا إلى الأربعة المذكورة القياس ونحوه على اختلاف آرائهم ومن هنا نعرف أن المراد من الدليل العقلي ما لا يشمل مثل القياس) ( [5] ).
 أقول: إنّ أهل السنة يقولون بحجية الدليل العقلي الظنّي على الحكم الشرعي، وهذا قد وقفت المدرسة الإماميّة منه موقف الإنكار والردع، أمّا قدماء الأصوليين من الإمامية فحينما يذكرون الدليل العقلي كأصل على الحكم الشرعي فهم لا يريدون هذا الحكم العقلي القطعي المتمثّل بالحكم العقلي النظري والعملي كما حرّرناه في هذا البحث، بل يريدون أصالة البراءة العقلية حيث اعتبروها قطعية ودليلاً على الحكم الشرعي.
 وكذا الاستصحاب فإنّ الحالة الأصلية هي براءة الذمة قبل الشرع وهي تثبت بالاستصحاب، وسمّوه استصحاب العقل، وقالوا عن الاستصحاب إنّه دليل عقلي قطعي.
 أقول: البراءة والاستصحاب كلاهما ليسا دليلاً على الحكم الشرعي ولا يفيدان القطع بالحكم الشرعي وإن قطعنا بتفريغ الذمّة بهما، ثمّ قالوا: إنّ الاستصحاب والبراءة العقلية وكذا بقية الأصول العملية هي أدلّة ظنّية قام الدليل القطعي عليها، لذا في المعالم جعل البراءة دليلاً ظنّياً قام على اعتبارها دليل قطعي، وهذا أيضاً ليس بصحيح لأنّ البراءة وبقية الأصول العملية ليست أدلّة على الحكم الشرعي.
 ثمّ حصلت الفكرة الصحيحة القائلة بأنّ الأصل العملي (كالبراءة والاستصحاب) لا يكشف عن الحكم الشرعي وليس دليلاً عليه ولا يفيدان القطع بالحكم ولا الظنّ به، بل هو يحدّد الموقف العملي للمكلّف اتجاه الحكم الواقعي، وليس من جملة الأدلة، فلاحظ.


[1] أصول الفقه3: 141، اخر مبحث الإجماع المنقول.
[2] () السرائر ص 2 نقله عنه الشيخ المظفر.
[3] () المعتبر ص 6.
[4] () راجع أول الجزء الثاني من كتاب القوانين.
[5] () اصول المظفر 121.