الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

32/12/25

بسم الله الرحمن الرحیم

 قاعدة: حجية الدليل العقلي ( [1] )
 والدليل العقلي النظري على الحكم الشرعي يرجع إلى أحد بابين:
 الأول: باب العلاقات والاستلزامات الواقعية التي يدرك العقل ثبوتها بين الأحكام، وهو باب الإمكان والوجوب والاستحالة، فيحكم باستحالة اجتماع الأمر والنهي أو يحكم بإمكان الخطاب الترتبي، أو يحكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضدّه عقلاً. وهذه الأحكام العقلية النظرية( [2] ) تكفي وحدها لنفي الحكم الشرعي كنفي اجتماع كلا الحكمين المتضادين، حيث يكفي في انتفاء شيء ثبوت استحالته، ولكنها لا تكفي لإثبات الحكم لوحدها، بل لابد من ضمّ ضميمة إليها، فان مجرد إمكان شيء أو استحالة ضدّه أو ثبوت الملازمة عقلاً بين شيء وشيء آخر لا يشكل دليلاً على ثبوت الحكم. بل لابدّ من ضمّ حكم آخر كالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، أو حكم العقل بوجوب مطابقة حكم الله لما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة( [3] ).
 الثاني: باب العليّة والمعلوليّة، أي إدراك علّة الحكم وملاكه التام فستكشف لميّاً ثبوت الحكم الشرعي في مورد إدراك العقل لذلك الملاك كما في قياس الأولوية، فالعلة تؤخذ من الشرع فيقال ان الحزازة للأب التي هي علّة للتحريم في التأفف موجودة في الضرب والشتم للأب فيحرم الشتم والضرب أيضاً. والحكم العقلي الراجع إلى هذا الباب يمكن أن يستقل في إثبات الحكم الشرعي.
 وأما الدليل العقلي العملي فهو المصطلح عليه بباب المستقلات العقلية: فهو لوحده لا يكفي لإثبات حكم شرعي ما لم ينضمّ إليه حكم عقلي نظري سواء كان حكماً منطبقاً على فعل العبد (كحكم العقل بقبح الظلم او قبح ضرب اليتيم مثلاً) فانه بحاجة إلى ضمّ حكم العقل النظري بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، أو كان الحكم منطبقاً على فعل المولى (كحكم العقل بقبح تكليف العاجز مثلاً أو قبح ترخيص المولى في المعصية) فانه بحاجة إلى ضمّ حكم عقلي نظري، وهو استحالة صدور القبيح من المولى.
 إذن حكم العقل النظري قد يستقل في إثبات حكم شرعي، أما حكم العقل العملي فهو بحاجة إلى ضم حكم عقلي نظري لإثبات حكم شرعي.
 وبعبارة أخرى: ان حكم العقل العملي يقول: ان هذا الفعل مما ينبغي فعله، أو مما لا ينبغي فعله، أما ان هذا الفعل مما ينبغي فعله عند الشارع؟ فهذا أمر آخر لابد من إثباته، ويتوقف إثباته على حكم العقل النظري، فيدرك الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع، ومورد الملازمة مسألة الحسن والقبح العقلي، فان هذا الإدراك هو وظيفة العقل النظري لأنه من الأمور الواقعية التي تدرك بالعقل النظري( [4] ).
 مستند حجّية الدليل العقلي:
 ان مستند حجية الدليل العقلي القطعي يمكن إثباتها بطريقين:
 الأول: إبطال ما قد يقال أو قيل في عدم حجية الدليل العقلي القطعي، فيثبت حجية الدليل العقلي القطعي.
 الثاني: إثبات حجية الدليل العقلي مباشرة.
 أما الطريق الأول:
 أ ـ أن يدعى أن الحكم مقيّد بحصوله من الدليل السمعي، أو أن لا يكون حاصلاً من الدليل العقلي وحده.
 وخلاصته هذا الأمر هو أن الحكم الشرعي لا يتنجّز ولا يجوز الأخذ به إلا إذا ثبت من طريق الكتاب والسنة، ومعنى ذلك هو تقييد الأحكام الشرعية بالعلم بها من طريق الكتاب والسنة، لقولهم )): إن دين الله لا يصاب بالعقول.
 والجواب:
 1ـ ان الأحكام الشرعية لم تقيّد بشيء من هذين القيدين، فتكون دعوى عدم حجية الدليل العقلي بلا برهان. ما ذكر من الأدلة الروائية الناهية عن الأدلة العقلية كان ناظراً إلى النهي عن الحكم العقلي الظنّي الذي تدور عليه استنباطات أهل السنة وأهل الرأي منهم.
 2ـ ان غاية الوجهين المتقدمين يجعل النزاع بين من يقول بحجيّة الدليل العقلي ومانعه نزاع تخطئة لا اتهام، بمعنى أن من يحصل له القطع من دليل عقلي يكون قطعه حجّة عليه، إلا أنه بنظر الإخباري يكون مشتبهاً، إذ لا يوجد حكم في حقّه فلا تقصير في النتائج ولا في المقدمات.
 3ـ ان الدليل العقلي القطعي قد يبرهن به على عدم الحكم كما لو حصل يقين بعدم الخطاب الترتّبي لاستحالته مثلاً ولا يُعقل ان يكون عدم الحكم قد نشأ من الدليل السمعي.
 وما قيل من أنّ لا ضرر حكمٌ على عدم جواز الإضرار بالآخرين فهو حكم سمعي على عدم الإضرار، فهو من ثبوت الحكم لأنّ ثبوت الحكم وحصوله قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً، ومرادنا هنا ليس هو عدم ثبوت حكم سلبي، بل عدم حكم أصلاً.


[1] () بحوث في علم الأصول 4 : 119.
[2] () إما تدرك بالعقل بالبداهة، أو لأنها من الأوليات أو النظريات التي قياساتها معها، أو لكونها تنتهي إلى الأوليات اوالفطريات فيعلم بها العقل على سبيل الجزم.
[3] () راجع المظفر 3 : 127.
[4] () راجع أصول المظفر 3 : 128.