الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الاصول

32/10/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: التجري.

ثمّ ذكر السيد الخوئي (قدس سرّه) أنّه:

(بعد هذا البرهان لا حاجة إلى ذكر الروايات الضعيفة التي يقال إنّها دالة على حرمة الفعل المتجرّى به شرعاً بتقريب دلالتها على ثبوت العقاب في مورد التجري وعلى نية السوء وإرادة العمل بدعوى أنّها بلغت حدّ التواتر كما فعل الشيخ الأنصاري في رسائله, فإنّ الظهور العرفي لا يقاوم البرهان)[1] .

 إذن ظهر أن الفعل المتجرّى به قبيح عقلاً وعقلائياً أيضاً إلّا إنّه غير محكوم بالحرمة شرعاً.

ولكن لا يقال: إنكم قلتم سابقاً: إنّ الفعل المتجرّى به قبيح عقلاً وعقلائياً أيضاً فيستحقّ فاعله العقاب, والآن تقولون: إنّه غير محكوم بالحرمة شرعاً, ومعنى ذلك إنّ المتجرّي غير مستحقّ للعقاب, فحصل التهافت والتنافي في كلامكم بأنّ الفعل المتجرّى به يستحقّ فاعله العقاب ولا يستحقّ العقاب.

والجواب: إنّنا في البحث الفقهي نفينا أن يكون الفعل المتجرّى به حراماً شرعاً, ولكن نفي الحرمة لا توجب نفي العقاب, لأنّ العقاب إنّما يكون بحكم العقل والعقل لا يفرّق في العقاب بين العاصي والمتجرّي، لأنّ كلّا منهما في مقام التعدّي على المولى وعدم توفية المولى حقّه, وإنّ المتجرّي قد ظلم المولى وهتكه لأنّه لم يجر على قانون العبودية.

 إذن كما قلنا سابقاً: إنّ العاصي والمتجرّي يستحقّان العقاب على أعملهما الاختيارية التي فيها عدم احترام للمولى فهما طاغيان, ومصادفة الواقع وعدمها أمران خارجان عن أفعالهما الاختيارية، فلا معنى لتعليق العقاب عليهما أصلاً.

 وقد فرّقنا سابقاً بين العاصي والمتجرّي بأمرين هما مقدار العقاب الأخروي المعدّ لشارب الخمر من أنّه لا يشرب من ماء الكوثر فلا يجري على المتجرّي, ومقدار العقاب الدنيوي وهو حدّ الشارب فلا يجري على المتجرّي.

 وعلى هذا لا مجال للقول بأنّه بناء على عقاب المتجرّي إذن يلزم أن يعاقب العاصي بعقابين, لأنّ العقاب هو على الأمر الاختياري, ومصادفة الواقع ليس من الأمور الاختيارية, إذن عقاب العاصي كعقاب المتجرّي لا أنّ العاصي يعاقب بعقابين.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قد ذكر أنّ الفعل المتجرّى به ليس قبيحاً وإن استحقّ العبد المتجرّي العقاب وذكر أنّ العقاب على عزمه واختياره (أي إرادته), ثمّ عندما بنى على أنّ العزم والاختيار (الإرادة) ليست اختيارية ومع هذا يعاقب عليها كالعاصي فإنّ مصادفة الواقع ليس باختياره ويعاقب على عصيانه وهذا جّره إلى الجبر وغيره ممّا هو باطل.

أقول: العزم والاختيار (الإرادة) من أفعال النفس الإنسانية الاختيارية أي أنّ فعلها وتركها بيده والعقاب ليس عليها, بل على الفعل الذي فيه هتك المولى والعزم لا هتك فيه لوحده وإلّا لزم العقاب على العزم وإن لم يفعل في الخارج.

نعم, لو قلنا: إنّ العزم والاختيار من الصفات لا من الأفعال وأن العقاب على العزم قبيح فيصحّ كلام صاحب الكفاية لكنّهما باطلان.

وربّما يستدّل على حرمة التجرّي شرعاً بالإجماع, ويصوّر الإجماع في موردين:

 1ـ اتفاق الأصحاب على عدم إعادة من سافر وهو مغرِّر لنفسه (أي أنّه معرض نفسه للخطر) فصلّى تماماً ثمّ انكشف عدم التغرير بالنفس, فهنا يقال: إنّ التجرّي حرام شرعاً ولذا لزمه الإتمام , ولو لم يكن التجرّي حراماً فلا يلزمه الإتمام.

 2ـ من ظنّ ضيق الوقت فلم يصلِّ ثمّ انكشف أنّ الوقت واسع وليس بضيّق، فإنّ الإجماع قائم على أنّه آثم, وهذا يدلّ على حرمة التجرّي شرعاً وإلّا فهو لم يرتكب واجباً فلا يكون آثماً.

ويرد على هذا الاستدلال:

إنّ وجوب الإتمام في المورد الأوّل ليس من جهة التجرّي, بل لوجود موضوع للإتمام وهو ظنّ الضرر (أو القطع بالضرر) فإنّ الظنّ بالضرر أو القطع به مأخوذ بنحو الموضوعية في التحريم, والمغرّر بنفسه ظانّ بالضرر فيجب الإتمام في الصلاة, توضيح ذلك: إنّ الضرر المظنون:

 1ـ قد يكون هلاكاً للنفس.

 2ـ قد يكون هتكاً للعرض.

 3ـ قد يكون ذهاب مال مؤمن.

 وهذا الظنّ بالضرر موجب لتحريم السفر, لكون السفر منافياً للحفظ الواجب عليه فهو (أي السفر) معصية بنفسه.

 أمّا لو كان سفره لملاقاة أخاه الملحد بالله تعالى الذي يجب مقاطعته وقد قطع بوجوده في بغداد فسافر, فلم يكن سفره هذا فيه هلاكاً لنفسه ولا هتكاً للعرض ولا ذهاباً لمال مؤمن فذهب إلى بغداد فتبيّن أنّ الذي جاء إلى بغداد أخاه المسلم، فهنا يحصل التجرّي ولكن لا إجماع على الإتمام في الصلاة إذ الأقوال هنا مختلفة:

 فقسم قال: العبرة بالتمام بالمعصية الواقعيّة ولم تحصل.

 وقسم قال: العبرة بالتمام بالمعصية الاعتقادية وهنا معتقد للمعصية عند سفره فقد حصلت.

 وقسم قال: العبرة بأحدهما.

 وقسم قال: العبرة بالتمام بهما معاً, وهذا هو الظاهر لأنّ المعصية المأخوذة في الأخبار القائلة بالتمام لا تصدق إلّا على الواقع الواصل.

وأمّا الإثم في المورد الثاني: فإنّ موضوعه خوف الفوت الحاصل مع قيام الظنّ على ضيق الوقت, وهو يقتضي المبادرة لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني, وهذا لا ربط له بالتجرّي.

 وأمّا الإثم لو ترك المبادرة مع ضيق الوقت فنكشف سعته فهو لا يدلّ على الحرمة الشرعية للتجرّي، بل يعاقب عقلاَ لإخلاله بحقّ طاعة المولى وهو غير الحرمة الشرعية أو أعم منها.

 أمّا مدارك هاتين المسألتين الفقهيتين فهو موكول إلى محلّه في الفقه.

[1] غاية المأمول 2: 20, أقول: قد تقدّم إمكان أن يجعل الحكم الشرعي على وفق الحكم العقلي وفيه فائدة للمكلّفين لذا سنحتاج إلى سرد الأدلة الشرعية التي يدّعى دلالتها على الحكم الشرعي لحرمة التجرّي ونتبيّن دلالتها على ذلك وعدمه.