الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الاصول

32/06/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف

أمّا الشبهتان:

الأولى: قد يقال: ان هذه القاعدة نشأت لدفع شبهة عدم إمكان تخصيص العام بالمفهوم، ووجوب تقديم العام عليه لكون العام مدلول منطوقي والخاص مدلول مفهومي والمنطوق أقوى من الدليل المفهوم, فيقدم العام على الخاص.

وتندفع هذه الشبهة بقولنا: ان ميزان تخصيص العام بالمفهوم ليس من جهة أقوائية المفهوم من العام بل هو حالة لعلاج التعارض غير المستقر بين العام والمفهوم الناشئ من الدليل، وعلاج التعارض قد يكون بالورود (كرفع الإمارة لموضوع الأصل العقلي أي قبح العقاب بلا بيان فإن الإمارة دليل وبيان), وقد يكون بالحكومة (كرفع الإمارة لموضوع الدليل الآخر كالبراءة الشرعية بالتعبد الشرعي لا بالوجدان), وقد يكون بالقرينية وقد يكون بالتخصيص فليس الميزان في التخصيص هو اقوائية المخصِص من المخصَص حتى تأتي الشبهة المتقدمة.

الثانية: قد يقال بعكس الشبهة الأولى: بأن العام لابد وأن يخصص بالمفهوم الموافق بالخصوص، إذ لو لم يُخصص العام به لزم إلغاء منطوق المفهوم الموافق أيضاً وذلك للتلازم بين المفهوم الموافق للدليل المنطوقي والمنطوق وعدم إمكان التفكيك بين المنطوق والمفهوم، وإلغاء المنطوق هو إلغاء للدليل بلا موجب، فلابد وان يخصص العام بالمفهوم الموافق للمنطوق ([1] ).

وتندفع هذه الشبهة الثانية: بعدم لابدية أن يخصَّص العام بالمفهوم الموافق وذلك فان المعارضة بين العام والمفهوم الموافق تسري إلى العام والمنطوق, لأن العام المعارض للمفهوم يعارض المنطوق أيضاً، فإما ان نخصص العام بالدليل المنطوقي والمفهوم الموافق وإما أن لا نخصص العام فيما إذا وجد ملاك لتقديم العام على المنطوق، فحينئذٍ لا يكون إسقاط المنطوق بلا موجب, كما إذا صدرت دلالتان متنافيتان وكانت إحداهما أقوى من الأخرى ولم تكن قرينة على التخصيص أو التقييد أو الحكومة أو الورود, فهنا نقدم الدلالة الأقوى لأن الظهور على ذلك فتكون هي المرادة فيقدم العام على الخاص المنطوقي ومفهومه بموجب فيحمل الخاص على الاستحباب.

 وبهذا تم أن هذه القاعدة ليست ناشئة من إحدى الشبهتين.

2ـ البحث هنا يقع في مقامين لأن المفهوم ينقسم إلى قسمين:

1ـ مفهوم الموافقة

2ـ مفهوم المخالفة

القسم الأول: إذا تعارض مفهوم الموافقة مع العام

والمراد من مفهوم الموافقة: هو ما إذا وافق المفهوم المنطوق من حيث الإيجاب والسلب، إما لكون موافقة المفهوم للمنطوق للأولوية أو للتساوي لاشتراكهما في علة الحكم ومناطه، ويشترط في مفهوم الموافقة أن تكون الملازمة بينه وبين المنطوق عرفيه، فلا يكفي ثبوت الملازمة بعنايات عقلية.

 ثم ان دلالة مفاد المنطوق على مفهوم الموافقة هي دلالة قطعية دائماً لأنها قائمة على أساس القطع بالملازمة بين حكم المنطوق وحكم المفهوم، نعم منشأ لدلالة المفهومية التي هي دلالة المنطوق على الملزوم قد تكون صريحة وقد تكون ظنية، أما الدلالة المفهومية فهي قطعية دائماً.

 وحينئذٍ نقول إذا تعارض مفهوم الموافقة مع العام كما في قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فانه عام يشمل كل عقد يقع باللغة العربية وغيرها، فإذا ورد دليل خاص على اعتبار أن يكون العقد بصيغة الماضي، فقد قيل إنه يدل بالأولوية في مفهومه الموافق على اعتبار العربية في العقد، لأنه لما دل على عدم صحة العقد بالمضارع من العربية، فلم يصح من لغة أخرى بطريق أولى.

 وكما إذا ورد كل سائل يجوز شربه فهو عام سواء كان ماء أو لبناً، فإذا ورد لا يجوز شرب الماء المتنجس، فهو يدل بالمساواة بالمفهوم الموافق، على عدم جواز شرب اللبن المتنجس، لأن العرف يقطع بأن الحكم إنّما هو للمتنجس من غير دخل للماء فيه فالمفهوم الموافق «لا يجوز شرب اللبن النجس» مساو لمخصص.

 وكذا إذا ورد: أن كل سائل حلال شربه، فهو عام سواء كان خمراً أو ماءً، فإذا ورد الخمر حرام شربه لأنه مسكر، فيعلم عرفا أن الحكم وهو الحرمة لكل مسكر ولا دخل للخمر في الحرمة, فالمفهوم الموافق هنا مساو للمخصص.

 ولا شك أن مثل هذه المفاهيم الموافقة أن ثبتت بالأولوية أو المساواة فإنها تخصص العمومات, لأن المفهوم يكون كالنص أو أظهر من عموم العام فيقدم عليه كما في مثال «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» إذ يكون بينه وبين العربية «وهو المفهوم الموافق للخاص» عموم من وجه ويتعارضان في العقد الفارسي. أو يكون العام مع المفهوم من مصاديق العام والخاص كما في المثال الثاني والثالث فيقدم الخاص على العام.

مستند القاعدة:

أقول: إن مستند تقديم المفهوم الموافق على العام، هو من باب أن مفهوم الموافقة تكون دلالته على الملازمة بينه وبين المنطوق المخصص قطعية عرفاً، وأما دلالة العام على العموم فهي دلالة لفظية, فإذا كان المنطوق يخصص العام ويتقدم عليه أما من باب أنه أخص من العام أو من باب أنه نص أو أظهر من عموم العام أو كون الخاص قرينة على العام كما هو الأصح, فالمفهوم من الدليل المخصص يتقدم على العام ويخصصه أيضاً لأن الملازمة بين المنطوق ومفهوم الموافقة قطعية لوجود الخصوصية فيها معاً بصورة متساوية أو أن الخصوصية موجودة في المفهوم بصورة أقوى منها في المنطوق, فما أوجب تقديم الخاص على العام يوجب تقديم المفهوم الموافق على العام بنفس النكتة.

[1] () راجع بحوث في علم الأصول ج 3، 383 384.