الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الاصول

32/06/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: حجية العام المخصص في الباقي

أما البحث الثاني: وهو مقدار الفحص، فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:

الأول: الاكتفاء بالظن على عدم وجود مخصص أو مقيّد أو معارض للحكم العام أو المطلق أو الظاهر.

الثاني: لابد من العلم واليقين من عدم وجود مخصص أو مقيّد أو معارض للحكم العام والمطلق أو الظاهر.

الثالث: الاكتفاء بالاطمئنان وسكون النفس (الذي هو دون اليقين وأعلى من الظن) بعدم وجود المخصِص أو المقيد أو المعارض للحكم العام أو المطلق أو الظاهر.

والأقوى هو الأخير, وذلك لأن الاكتفاء بالظن مما لا وجه له بعد قيام الدليل على عدم اعتباره إلّا إذا وجد دليل خاص يوجب حجية بعض الظنون فنتبع الدليل حينئذ. والاقتصار على العلم واليقين يوجب الحرج الشديد وسد باب الاستنباط لأنّ حصول العلم واليقين بالحكم الشرعي . أمّا الاطمئنان فهو طريق عقلائي يعتمد عليه العقلاء كما يعتمدون على العلم الوجداني ويكتفون بالاطمئنان في كل ما يعتبر فيه الإحراز، فالأقوى كفاية الاطمئنان بعدم وجود مخصص للعام.

التطبيقات:

 لا يجوز العمل بالعمومات الواردة في الكتاب والسنة بشأن العبادات والمعاملات وكذا المطلقات وكذا الظواهر قبل الفحص عن المخصصات والمقيدات والمعارضات، فان يئسنا عن المخصِص والمقيد والمعارض عمل بالعموم والمطلق والظاهر، وإن وجد المخصِص والمقيد والمعارض عمل كلّ عمله وما يترتب عليه من أحكام، فمثلاً إن عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»[1] وإطلاق «أحلّ الله البيع»[2] ، وظهور عدم جواز الانتفاع بجلود الميتة كما في موثقة سماعة قال: (سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ فقال إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده وأما الميتة فلا([3] )» كل هذه العمومات لا يجوّز لنا أن نعمل على وفقها إلا بعد البحث عن المخصصات والمقيدات والمعارضات, فمثلاً خصص الأول أي «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بالعقود الربوية, فقد دلت الروايات الكثيرة على كون هذه العقود ممنوعة حرمة ووضعاً, والعقود الغررية فإنّها ممنوعة وضعاً وغيرها، وقيد الثاني ـ حلية البيع ـ ببيع الربا في المعاوضات وببيع السلاح لأعداء الدين وببيع الخمر وغيرها لوجود الأدلة على حرمة مثل هذه البيوع، وعورض الثالث بروايات تجوّز الانتفاع بجلد الميتة مثل موثقة البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من إلياتها وهي أحياء أيصلح له أن ينتفع بما قطع؟ فقال: «نعم، يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها) ([4] ).

 فان فحص عن المخصصات أو المقيدات أو المعارضات في مضانها فلم يظفر به ويأس منه تمكن من العمل بالعمومات والمطلقات وظواهر الأدلة.

الاستثناءات:

 1ـ العمومات التي ليست في معرض التخصيص مثل غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورة، مثل الإحسان الى الغير صدقة, الكلمة الطيبة صدقة, الغش مذموم, إعانة الفقير حسنة, الإسلام (في تشريعاته الحقّة) يعلو ولا يعلى عليه، ومثل حرمة الظلم وقبحه، ووجوب العدل وحسنه، فالسيرة العقلائية قائمة على التمسك بهذه العمومات بلا فحص عن المخصِص، قال في الكفاية: «إذا لم يكن العام كذلك [أي في غير معرض التخصيص] كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات فلا شبهة في أن السيرة على العمل بلا فحص عن مخصص» ([5]

 2ـ يجوز العمل بالعام إذا احتمل إسقاط الراوي لمخصص متّصل، قال في الكفاية: «الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل باحتمال أنه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت كلمتهم على عدم الاعتناء مطلقاً ولو قبل الفحص عنها» ([6] ).

 فأن أصالة وثاقة الراوي تمنع من إسقاطه للمخصص المتصل, وقد تقدم منا المناقشة في هذا الكلام واحتمال كون الرواية في الدليل المتصل في آخر صفحة الكتاب وقد خرقت الورقة فلابد من البحث عن المخصص في كتب أخرى عن المخصص وهذا غير إسقاط الراوي للرواية عمداً أو خطأ أو نسياناً حتى يقال: إنّ الأول مخالف لفرض وثاقة الراوي، والأخيران يردهما أصالة عدم خطأه ونسيانه.

قاعدة: تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف

الألفاظ الأخرى:

 تخصيص العام بالمفهوم

 جواز التخصيص بالمفهوم المخالف

 جواز تخصيص الكتاب بالمفهوم المخالف

توضيح القاعدة:

مفهوم الموافقة: هو اللازم للمدلول المطابقي بحيث يكون المفهوم للمدلول المطابقي موافقاً سنخاً للمنطوق كقوله تعالى: « فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا»[7] ولازمه حرمة الضرب, فالمفهوم موافق للمنطوق في سنخ الحكم, وكذا قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فانه عام يشمل كل عقد يقع باللغة العربية وغيرها، فإذا ورد دليل خاص على اعتبار أن يكون العقد بصيغة الماضي، فهذا المخصص يدل بالأولوية على اعتبار العربية في العقد.

مفهوم المخالفة: وهو المفهوم الذي يخالف الربط في جملة المنطوق فيخالف سنخ الحكم في جملة المنطوق كما إذا ورد أنّ كل من تشهد الشهادتين فهو محقون الدم, فهذا عام يشمل الموالي وغيره حتى الناصبي فإن جاء دليل على اختصاص المسلم بغير الناصبي فيكون مفهومه إن كان ناصبياً فهو غير محقون الدم وهذا مفهوم مخالف أخص مطلقاً من العام فيخصص العام به.

فالعام يخصص بالمفهوم الموافق والمخالف.

وهنا شبهتان:

الأولى: قد يقال: ان هذه القاعدة نشأت لدفع شبهة عدم إمكان تخصيص العام بالمفهوم، ووجوب تقديم العام عليه لكون العام مدلول منطوقي والخاص مدلول مفهومي والمنطوق أقوى من المفهوم, فيقدم العام على الخاص.

الثانية: وقد يقال بعكس الشبهة الأولى: بأن العام لابد وأن يخصص بالمفهوم الموافق بالخصوص، إذ لو لم يُخصص العام به لزم إلغاء منطوق المفهوم الموافق أيضاً وذلك للتلازم بين المفهوم الموافق والمنطوق وعدم إمكان التفكيك بين المنطوق والمفهوم، وإلغاء المنطوق هو إلغاء للدليل بلا موجب، فلابد وان يخصص العام بالمفهوم الموافق .

 وسيأتي الجواب عنهما غدا إن شاء الله.

[1] المائدة: 1.

[2] البقرة: 275.

[3] () وسائل الشيعة ج 16 باب 33 من الأطعمة ح 10.

[4] () وسائل الشيعة ج 12 باب 6 مما يكتسب به ح 6.

[5] () كفاية الأصول: 265.

[6] () كفاية الأصول: 265.

[7] الأسراء: 23.