الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الأصول

46/06/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- الأمر الثاني - مبحث الاصول العملية.

الأمر الثاني:- الفرق بين الأمارة والأصل.

لم يذكر الاصوليون هذا العنوان في كتبهم الاصولية بعنوانٍ وبحثٍ خاص، فهم تعرضوا إلى قضايا جانبية كثيرة ولكنهم لم يتعرضوا إليه، فمثلاً تعرضوا إلى قضية أن البحث عن الاصول العملية هل هو بحث أصولي أو ليس بأصولي، كما بحثوا مسألة أنَّ الاصل في الاشياء هل هو البراءة أو هو الاحتياط، وما الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة أنَّ الأصل في الاشياء هو الحظر أو الاباحة وقد أشاروا إلى الفرق بينهما الحال أنها قضية جانبية، وكذلك تعرضوا إلى مسألة أنه لماذا حصرت الأصول العملية في أربعة أصول والحال أنه توجد أصول أخرى مثل أنَّ الاصل في الاشياء هو الاباحة أو هو الحضر، أو انَّ الأصل هو البراءة أو الاحتياط، وما الفرق بين هاتين المسألتين مسألة أن الاصل هو البراءة أو الاحتياط أو أنَّ الأصل في الاشياء هو الاباحة أو الحضر، كما تعرضوا إلى أنه لماذا حصرت الاصول بأربعة والحال أنه توجد أصول أخرى مثل أصل الحلَّية أو أصل الطهارة، فهم تعرضوا إلى أمور جانبية كثيرة ليست مهمة ولم يتعرضوا إلى الفرق بين الامارة والاصل بعنوانٍ خاص.

ونحن لا نريد أن نقول هم لم يشيروا إليها بالمرة، بل لعلهم أشاروا إليها في ثنايا كلامهم، حيث توجد اشارة لذلك في بعض كلماتهم ولكنهم لم يذكروها تحت عنوان خاص.

ونحن الآن نريد التعرض إلى الفرق بين الامارة والأصل:- وفي هذا المجال نقول قد ذكرت عدَّة فروق:-

الفرق الأول:- وهو ما بنى عليه الشيخ النائيني والشيخ العراقي(قده) بل يمكن نسبته إلى السيد الخوئي(قده) أيضاً، وهو أنَّ المجعول في باب الأمارة هو العلمية والمجعول في باب الاصول العملية هو الجري العملي، وربما يلوح ذلك من بعض عبارات الشيخ الأعظم(قده) في بداية بحث التعادل والتراجيح حيث قال:- ( فمؤدى الامارات بحكم الشارع كالمعلوم لا تترتب عليه الاحكام الشرعية المجعولة للمجهولات )[1] ، فهذه العبارة قد توحي بسملك جعل العلمية.

وقد استدل الشيخ النائيني(قده) على كون الفارق بين الاصل العملي والامارة هو أنَّ المجعول في باب الامارة هو العلمية بخلاف الأصل المجعول هو الوظيفة العملية بوجهين:-

الوجه الأول:- إنَّ الامارات الشرعية - مثل الخبر - ليست مجعولة من الشرع ابتداءً بل هي أمورٌ عقلائية يأخذ بها العقلاء، فالعقلاء يأخذون بالخبر قبل أن يجعله الشارع حجة، فهي مجعولات عقلائية والشارع أمضى ذلك، وإذا رجعنا إلى العقلاء نجد أنهم يأخذون بالخبر ليس إلا من باب إلغاء الاحتمال المخالف، فصحيحٌ أنَّ الخبر يفيد الظن بدرجة سبعين بالماءة مثلاً لا مائة بالمائة ولكن أنت كعاقل تأخذ به من باب أنك تلغي احتمال المخالفة فتسير وراء الخبر، وهذا هو معنى جعل العلمية، فإنه بعد إلغاء الاحتمال المخالف يصير الخبر بمثابة العلم، وعليه فالمجعول في الامارات هو العلمية.

الوجه الثاني:- إذا لم يكن المجعول في باب الامارة هو العلمية فحينئذٍ لا يمكن أن تصير الامارة منجّزة، فإنَّ التنجيز من خواص ولوازم العلم، فإذا لم تجعل الامارة علماً فحينئذٍ لا يمكن أن تصير منجِّزة وإلا يلزم محذور تخصيص الاحكام العقلية، لأنه توجد عندنا قاعدة عقلية مسلّمة وهي قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان )، وبلا بيان يعني بلا علم، فإذا لم يُجعَل الخبر عند العقلاء علماً في المرحلة الأولى فحينئذٍ لا يمكن أن يصير منجّزاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان وبالتالي يلزم تخصيص هذا الحكم العقلي والاحكام العقلية لا تقبل التخصيص. بينما المجعول في الاصل العملي ليس هو العلمية وإنما هو الوظيفة العملية والجري العملي.

وفي مقام التوضيح نقول:- إن كان الشيخ النائيني(قده) ينظر إلى لسان الدليل وأننا يلزم أن نلحظ لسانه وكيف يعبَّر فإن كان الدليل يعبر بلسان ( العمري وابنه ثقتان فما أديا عني فعني يؤديان )، أو كان الدليل يعبر بلسان ( إذا جاءك الثقة فلا تتبين ) فما ذكره شيء مرفوض، فإنَّ لسان الدليل ليس بمهم كيف يعبر، وإن كان مقصوده هو بقطع النظر عن لسان الدليل وإنما يريد أن يقول إنَّ المجعل واقعاً في باب الامارة هو العلمية وفي باب الاصل هو الوظيفة العملية وأما لسان الدليل فليس بهم وإنما المهم هو التفرقة الواقعية فهذا له وجاهة.

كلام للسيد الشهيد(قده):-

حينما ذكر السيد الشهيد(قده) كلام السيد الخوئي(قده) قال إنَّ كلمة الامارة والأصل لم تردا في لسان الأدلة حتى نفرّق بينهما كيفما اتفق، وإنما الامارة والاصل هما مصطلحان اصوليان يراد بالامارة ما كانت لوازمه - مثبتاته - غير الشرعية حجة، ويراد بالأصل ما كانت لوازمه غير الشرعية ليست بحجة.

ثم علَّق على كلام الشيخ النائيني(قده) وقال:- قد تخيل الشيخ النائيني(قده) أنَّ ما ذكره من جعل العلمية في باب الامارة ومن عدم جعل العلمية وإنما مجرد العمل في باب الاصل العملي كافٍ للتفرقة بينهما ولحلّ هذه المشكلة، فبصيرورة الامارة علماً تصيّر لوازمها حجة لأنَّ العلم بالشيء علمٌ بلوزامه دون لوازم الأصل لأنَّ المجعول فيه ليس هو العلم فلا تصير لوازمه حجة، ولكن نقول إنَّ هذه التفرقة تتم في العلم التكويني ولا تتم في العلم الاعتباري، يعني في العلم التكويني العلم بالشيء يكون علماً بلوازمه، فإذا علمتُ بوجود النهار الآن فسوف أعلم بلازمه وهو طلوع الشمس، وأما كان العلم اعتبارياً فالعلم بالشيء لا يكون علماً بلوازمه، وحيث إنَّ العلميَّة الثابتة في مورد الامارة هي علمية اعتبارية لا تكوينية فحينئذٍ لا يلزم من العلم بمؤدى الامارة العلم بلوازمها حتى تكون لوازم الامارة حجة.


[1] فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج4، ص15.