الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

45/11/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - النقطة الثانية ( مراتب الظهور )- حجية الظهور - مبجث الظن.

القضية الثالثة: - إنَّ ظهور الكلام في معنىً معين له مناشئ متعددة، منها: -

الأول: - الوضع، فإنَّ وضع اللفظ لمعنىً معين يكون منشأً لظهور هذا اللفظ في ذلك المعنى المعين، فمثلاً حينما يولد لك طفل وتسميه اسماً معيناً فحينما تناديه بذلك الاسم فسوف يجيبك وهذا يكشف عن وجود ظهورٍ ارادة وهذا الظهور ناشئ من الوضع.

الثاني:- السياق، فمثلاً إذا ذكرت الرواية جملة من الأحكام - كخمسة أحكام مثلاً - وكان سياقها سياق مستحبات ولكنها ذكرت حكماً آخر شككنا في أنه واجب أو أنه مستحب أيضا كالأحكام السابقة المذكورة معه والتي عرفنا من الخارج أنها مستحبة بأجمعها فهنا نقول إنَّ هذا الحكم السادس هو مستحب أيضاً بقرينة السياق إذا لم يثبت من الخارج أنَّ المقصود منه الوجوب، وأما إذا ثبت بدليل من الخارج أنَّ المراد منه هو الوجوب فسوف نلتزم بالتفكيك، وأما إذا لم يثبت دليل من الخارج فنقول إنه مستحب أيضاً كبقية الأحكام المذكورة في الرواية بقرينة وحدة السياق حيث إنه سياق مستحبات فيثبت بذلك أنه مستحب أيضاً.

الثالث: - مناسبات الحكم والموضوع، فإنها تكون سبباً لحدوث الظهور، من قبيل ( اغسل ثوبك من ابوال ما لا يؤكل لحمه )، فإذا فرضنا أنه كان عندنا شيء آخر غير الثوب كالعباءة أو الجورب فمثل هذه الأمور لا يصدق عليها انها ثوب فنقول إنَّ مثل هذه الأمور تتنجس أيضاً إذا أصابها بول ما لا يؤكل لحمه لأنَّ العرف لا يفهم الخصوصية للثوب وإنما يلغي تلك خصوصية ويعمم الحكم إلى كل شيءٍ يُلبس وهو قابلٌ للعصر.

الرابع: - المرتكزات المتشرعية المسبقة، فإنَّ تلك المرتكزات قد تؤثر في ظهور النص فتوسع من ظهوره أو تصير سبباً لحمل الأمر على الاستحباب لأجل ذلك المرتكز.

ولعله توجد مناشئ أخرى للظهور.

القضية الرابعة: - قد يعمل البعض دقةً في مقام الظهور وقد تكون هذه الدقة فائقة، ولكن ليس من المناسب اعمالها، وذلك من قبيل أنَّ يدقق في أنَّ النص عبّر بالفاء ولم يعبر بالواو مثلاً أو بالعكس وما شاكل ذلك فإنَّ هذه تدقيقات لا يمكن الاعتماد عليها وفي الغالب هي غير معتبرة والوجه في ذلك أمور: -

أولاً: - إنَّ النقل للروايات عادةً هو نقل بالمعنى لا أنه نقل بالنص، وإذا كان يسوغ النقل بالمعنى فمن حق الراوي أن يضع الفاء بدل الواو أو بالعكس، فله أن يقول مثلاً ( فأكل الامام ) أو يقول ( وأكل الامام ) فإنَّ معنى التعبيرين واحد وهذا التغيير البسيط في اللفظ مغتفر لأنه لا يضر بالمعنى.

ثانياً: - السيرة العقلائية، فإنَّ العقلاء جرت سيرتهم على عدم التدقيق إلى هذه الدرجة، فهم لا يقولون إنَّ النص عبَّر بالفاء دون الواو مثلاً وإنما السيرة العقلائية لا تعطي مزيد اهتمامٍ لمثل هذه القضايا الجزئية، وعليه فينبغي الحذر من التمسك بهذه القضايا الجزئية واستنباط حكم على أساسها فإنَّ هذا شيء غير محبَّذ.

ثالثاً: - إنَّ الامام عليه السلام جوّز هذه الأمور الجزئية وقال للراوي إذا أردت أن تنقل المعنى فلا بأس بذاك وهذا ما ورد في صحيحة محمد بن مسلم قال:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- اسمع الحديث منك فأزيد وأنقص، قال:- إن كنت تريد معانيه فلا بأس )[1] ، فالإمام عليه السلام جوّز ذلك مادام الراوي يريد نقل المعنى فقط لا أنه يريد نقل الكلام بالنص، وإذا كان لا يريد نقل نصّ الألفاظ كما هو العادة فحينئذٍ يكون الاستنباط القائم على هذا التدقيق في التعابير هو استنباطٌ قائمٌ على أساس واهٍ.

نعم نستثني من ذلك القرآن الكريم فإنَّ التعابير الواردة فيه ليست كتعابير الروايات وإنما التعابير الواردة فيه مضبوطة فمثل الفاء والواو هنا يؤثران في الظهور، ولكن كلامنا ليس في الكتاب الكريم وإنما في باب الروايات فإنَّ التركيز على هذا المعنى واستخراج الظهور على أساس الفاء دون الواو مثلاً شيء مرفوض.

ثم إنه نشير إلى مطلب جانبي: - وهو أنَّ من ألوان الدقة غير المحبَّبة ما إذا أريد استفادة الظهور من مقدمات برهانية لا وجدانية.

من قبيل استدلال الشيخ العراقي(قده) في ظهور صيغة افعل على الوجوب حيث قال:- إنَّ الوجوب والاستحباب يشتركان في أصل الطلب ويختلفان في الشدَّة والضعف، وشدَّة الشيء هي من جنس ذلك الشيء بخلاف ضعف الشيء فإنه ليس من جنس ذلك الشيء - فشدَّة السواد هي سوادٌ إضافي وأما ضعف السواد فهو عدم بعض السواد - وحيث إنَّ شدة الشيء هي من جنسه بخلاف ضعف الشيء فإنه ليس من جنسه فالأمر يكون ظاهراً في الطلب الوجوبي دون الاستحبابي فإنَّ الوجوب هو بأجمعه طلبٌ؛ إذ شدَّة الطلب في الوجوب هي الطلبٌ، بخلاف الاستحباب فإنَّ اراداته تحتاج إلى قرينة فإنه ضَعفٌ في الطلب وضَعفُ الطلب ليس طلباً، فإذاً يوجد ما به الامتياز وما به الاشتراك، ففي باب الوجوب ما به الامتياز - وهو شدَّة الطلب - عين ما به الاشتراك لأنَّ شدَّة الطلب هي طلبٌ، بخلاف ضعف الطلب في الاستحباب فإنها عدمٌ وعدم الشيء يغاير الشيء، وعلى هذا يكون الأمر ظاهراً في الوجوب.

ولكن نقول: - إنَّ هذا اثباتٌ للظهور بمقدماتٍ عقلية دقّية وليست عرفية، فإنَّ قوله: ( إنَّ الوجوب بأجمعه طلب ) هو قضية عقلية أو عقلائية وليست عرفية، وكذلك الحال في قوله: ( إنَّ شدَّة الشيء من جنس الشيء ولا تغاير جنسه ) فإنها قضية ليست عرفية ايضاً، وكذلك قوله: ( ومادام ما به التغاير عين ما به الاشتراك فالوجوب في مقام الدلالة لا يحتاج إلى شيءٍ زائد على أصل الطلب ) فهذا أيضاً ليس أمراً عرفياً، وعليه فيكون هذا الاستظهار مبني على مقدماتٍ دقّية ومثله لا يمكن الاعتماد عليه.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج27، ص80، أبواب، باب8، ح9، ط آل البيت.