45/06/24
الموضوع: - النقطة الثالثة ( مسألة التحسين والتقبيح العقليين ) - الدليل العقلي.
الاشكال الثاني:- إنَّ اطاعة الباري عزَّ وجل واجبة ومعصيته محرمة ولا يمكن اثبات وجوب الاطاعة وحرمة والمعصية إلا بحكم العقل بحسن الاطاعة وقبح المعصية، وليس المدرك هو دليل نقلي من آية أو رواية إذ يعود الكلام من جديد حول هذا التكليف والسؤال عنه فيقال بلحاظه ( من قال بلزوم اطاعة هذا التكليف ؟ ) فإن كان الجواب هو العقل فمن البداية لنقل هو العقل، وإن كان الجواب هو الشرع فسوف يحتاج ذلك إلى دليل فيلزم محذور التسلسل، وهذا يرشدنا إلى أنَّ الحاكم بوجوب الاطاعة هو العقل من باب حسن الاطاعة وقبح المعصة، وبذلك يثبت المطلوب وهو أنَّ العقل يحكم بالحسن والقبح ونأخذ بحكمه.
وفي التعليق نقول:- يمكن اثبات وجوب اطاعة المولى عزَّ وجل لا من باب حسن الاطاعة وقبح المعصية عقلاً بل من خلال طريقٍ آخر وهو أننا نطيعه خوفاً من ناره وطمعاً في جنته، فإنَّ القرآن الكريم أخبر بوجود جنة ونار والمطيع له الجنة والعاصي له النار[1] ونحن نطيعه من هذا الباب.
وإن شئت قلت:- إنَّ المدرك للزوم الاطاعة هو دفع الضرر المحتمل - أو الحتمي - وجلب النفع المحتمل - او الحتمي - لا من باب حسن الطاعة وقبح المعصية.
وعليه فكلا الدليلين اللذين ذكرهما العلمان قابلين للاندافاع.
مطلبان جانبيان في المقام:-
المطلب الأول:- إنَّ الدليل على عدم حكم العقل بالحسن والقبح هو اختلاف المجتمعات في حسن بعض الاشياء وقبحها، فهذا الاختلاف يدل على أنَّ الحكم بالحسن والقبح ليس عقلياً.
وفي التعليق نقول:- إنَّ الاختلاف في الحقيقة هو ليس في أصل حسن الشيء أو قبحه فإنَّ الاممم لا تخلف في أصل الحسن والقبح، فالصدق مثلاً حسنٌ عند جميع الأمم والكذب قبيحٌ عند جميع الأمم وإذا فرض وجود اختلاف في ذلك فهو في الصغريات - أي في شروط حسن الصدق وأنه متى يحسن وهل يحسن حتى لو كانت فيه مضرَّة مثلاً أو أنه يختص بحالة عدم المضرة - فنحن نسلَّم بأنَّ الأمم لا تختلف في أصل حسن الشيء وقبحه وهذا لا خلاف فيه فإنَّ حسن الصدق وقبح الكذب لا خلاف فيه وإنما الخلاف في الصغريات والشروط والمزاحمات.
المطلب الثاني:- إنَّ الدليل على حجية العقل بحسن الشيء وقبحه هو نفس الدليل الذي ذكرناه في حجية العقل النظري حيث نقول: إنه يلزم التناقض إما واقعاً أو على الأقل في نظر القاطع، فإنَّ العقل إذا حكم بحسن شيء وقطع بذلك فحينئذٍ إذا فرضنا أنَّ هذا الحكم ليس بحجة فمعنى ذلك أنه سوف يثبت حكم من الشرع بنفي هذا الحكم العقلي فيلزم من ذلك اجتماع المتنافين إما واقعاً - أي يلزم أن يكون الشيء الواحد حسناً وغير حسن - أو على الاقل يلزم اجتماع الحسن والقبح في نظر عن القاطع، فلا يمكن سلب الحجية عن هذا الحكم العقلي القطعي وإلا يلزم التناقض، وهذه قضية واضحة.
وبهذا انتهينا من مبحث القطع العقلي والمباحث المرتبطة به.
العلم الاجمالي:
ويقع الكلام أولاً في أنه هل العلم الاجمالي حجة كالعلم التفصيلي أو يمكن المناقشة في حجيته وعدم منجزيته؟
قد يقال:- يمكن التأمل والتوقف في حجيته، باعتبار أننا لو علمنا بأنَّ أحد الطرفين هو المحرم - كما لو كان خمراً - ففي مثل هذه الحالة عند ارتكابنا للطرف الاول سوف لا نعلم بأنه هو المحرم وحينئذٍ لا يمكن الحكم بحرمة ارتكابه، وهكذا الحال بالنسبة إلى الطرف الثاني فإننا لا علم لنا بكونه هو المحرم حتى يحرم ارتكابه، نعم بعد ارتكابهما معاً سوف يحصل لنا العلم بارتكاب الحرام، ولكن المحرّم هو ارتكاب الحرام لا تحصيل العلم بارتكاب الحرام حين الارتكاب، وعلى هذا الاساس قد يشكك في حجية ومنجزية العلم الاجمالي.
وفي الجواب نقول:- إنَّ المنجزية العقلية لا ينحصر ملاكها بالعلم بأنَّ الطرف الاول حين الارتكاب هو حرام - نعم لو علمت بذلك فلا يجوز ارتكابه - وأنه هو الملاك الوحيد بل يوجد ملاك عقلي آخر للتنجيز عقلاً وهو العلم بأنَّ أحدهما حرام فإنَّ العقل يحكم بلزوم اجتنابهما معاً من باب ( قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي عقلاً الحكم بلزوم الفراغ اليقيني ) مثلاً.
فصحيح أنَّ ملاك التنجيز بأني أعلم بأنَّ هذا الطرف حين الارتكاب هو الحرام ولكن هذا ليس هو الملاك الوحيد المنحصر، بل يوجد ملاك عقلي ثانٍ فإنَّ العقل يقول ( إذا علمت بأنَّ الطرف الأول حين الارتكاب هو حرام يلزمك اجتنابه، وكذلك يحكم بلزوم الاجتناب عن الطرف الثاني إذا علمت بأنَّ المحرم موجود فيه )، فالتكليف بالاجتناب ثابت إما عن الطرف الأول أو عن الطرف الثاني وهذا ملاكٌ عقليٌ آخر للتنجيز .