45/05/24
الموضوع: - قيام الامارة مقام القطع - اقسام القطع - حجية القطع.
وأما إذا كان العقلاء يجعلون الامارة علماً لأجل حل مشكلة تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيرد عليه:-
أولاً:- إنَّ هذا تلبيسٌ على العقل وغشٌّ له، والوجه في ذلك أنَّ العقل إذا حكم حقاً بقبح العقاب بلا بيان فمجرد اعتبار الأمارة علماً لا يصيّرها علماً حقيقةً وإنما يصيّرها علماً بالاعتبار وهذا غش للعقل، فإنَّ العقل يقول يقبح العقاب بلا بيان يعني بلا علم ونحن نأتي ونقول له إنَّ الامارة - كخبر الثقة - هي حجة بمعنى أنها جُعِلت علماً - لأنَّ الالتزام بعدم حجية خبر الثقة لا يمكن الالتزام به بل هو حجة جزماً وذلك ثابت بالسيرة العقلائية وبالروايات - فنفسّر الحجية بجعل العلمية وحينئذٍ لا يلزم مخالفة الحكم الذي تراه وتحكم به - وهو أنه يقبح العقاب بلا بيان أي بلا علم - وتخصيصه بل سوف تكون حجية الخبر بعد أن صار المجعول فيه هو العلمية متوافقاً مع قاعدتك لا أنه مخصصاً لحمك، ولكن نقول إنَّ هذا تضليل للعقل فإنَّ العقل إذا حكم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وكان المقصود من البيان هو العلم فلابد إذاً من وجود علمٍ حقيقي لا أننا نحن العقلاء نعتره علماً فإنَّ هذا غش للعقل وليس خروجاً للمورد من قاعدة قبح العقاب بلا بيان خروجاً موضوعياً بل بقي الخبر حجّة ولكنه ليس علماً وإن فسّرنا الحجية بمعنى جعل العلمية ولكن جعل العلمية هذا نريد منه أن لا يتخصّص حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وهذا في الحقيقة غش وتضليل للعقل ولا معنى لأن يصير العَلَمان إلى مثله.
ثانياً:- إنَّ الحكومة - أي أن يكون دليل حجية الخبر حاكماً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان - غير معقولة في حدّ نفسها فإنَّ شرط الحكومة أن يكون كلا الحكمين صادرين من حاكم واحد، كأن أقول ( اكرم كل عالم ) ثم بعد ذلك اقول ( المتضلع في النحو هو عالم والذي له تضلع بالنجارة والتجارة والكتابة هو عالم أيضاً ) فالحكومة هنا وجيهه لأنَّ كلا الحكمين صادرين من شحصٍ واحد.
ويوجد مثال شرعي لذلك، وهو أن يأتي دليل يقول:- ( لا صلاة إلا بطهور ) ثم يأتي دليل آخر ويقول:- ( الطواف بالبيت صلاة )، فالحكومة هنا معقولة ووجيهة؛ إذ نقول مادام الشارع قد نزّل الطواف منزلة الصلاة فأحكام الصلاة سوف تثبت له ومنها الطهارة فلا يصح الطواف إلا بطهارة، وهذه حكومة مقبولة فإنَّ من صدر منه الدليلين الحاكم والمحكوم واحد ولا بأس أن يحكم دليل صادر من شخص على دليل ثانٍ صدر من نفس الشخص أيضاً، أما أن يكون الصادر من الشخص الأول حاكماً على الصادر من الشخص الثاني فهذا لا معنى له كما هو الحال في مقامنا، ففي مقامنا دليل اعتبار الامارة علماً قد صدر من العقلاء أو من الشرع بينما الدليل الثاني المحكوم قد صدر من العقل - وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان - ولا معنى لأن يكون أحدهما حاكماً على الآخر بعد اختلاف الجهة التي صدرا منها.
إن قلت:- إذا لم نقل بمسلك جعل العلمية - أي إذا لم نفسّر الحجية بجعل العلمية كما صار إليه العلمان - فسوف يلزم تخصيص قاعدة قبح العقاب بلا بيان وسوف تبقى هذه المشكلة من دون حل؟
قلت:- إنَّ هذا أدل دليل على بطلان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، واللازم أن نبدلها بقاعدة اخرى يسلّم بها الجميع وهي قاعدة ( قبح العقاب بلا حجَّة ) فإنَّ هذه قاعدة يحكم بها العقل جزماً، فإنه إذا لم توجد حجَّة على الشيء كيف أُعاقَب على مخالفته؟!!، فالعلم لا خصوصية له حتى يقبح العقاب بلا علم وإنما المدار على الحجّة، فإذا كان المدار على الحجة فحينئذٍ لا نحتاج إلى مسلك جعل العلمية في باب الامارة، بل مادام الشارع قد جعل الامارة حجّة فسوف تتلاءم مع قاعدة قبح العقاب بلا حجة، نعم إذا التزمنا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وفسّرنا البيان بالعلم فسوف نقع في المشكلة المذكورة فنضطر إلى القول بمسلك جعل العلمية ولكن هذا ليس بصحيح.
فإذاً قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) باطلة، والصحيح هو قاعدة ( قبح العقاب بلا حجة )، وحينئذٍ لا نحتاج إلى مسلك جعل العلمية.