الموضوع: - هل يمكن سلب الحجية عن الاطمئنان؟، مبحث التجري - حجية القطع.
اتضح من خلال ما ذكرنا أنه لا يمكن سلب الحجية عن القطع، والوجه الذي اخترناه هو أنَّ القاطع لا يتقبَّل سلب الحجية عنه، فإذا قطعت بأنَّ هذا الشيء نجس فحينئذٍ لا أتقبل من طرفٍ آخر أن يقول لي هو طاهر من بداية أمره، وهذا معناه أنَّ سلب الحجية عن القطع غير ممكن؛ إذ القاطع لا يمكن أن يتقبَّل شيئاً على خلاف قطعه.
وأما بالنسبة إلى الاطمئنان: - فهل يمكن سلب الحجية عنه أو لا؟
الجواب: - لا يمكن سلب الحجية عنه كالقطع، وما ذكر من جوابٍ في عدم امكان سلب الحجية عن القطع يأتي في الاطمئنان أيضاً، فكما أنَّ القاطع لا يتقبل من الغير طهارة ما قطع بنجاسته كذلك الحال بالنسبة إلى الاطمئنان فإنه لا يمكن سلب الحجية عنه مادام الاطمئنان باقياً، نعم إذا تزحزح الاطمئنان وتبدَّل إلى ظن عادي أو كان مجرد احتمال فتلك قضية ثانية، ولكن المطمئن مادام هو مطمئناً فلا يمكن سلب حجية الاطمئنان عنه كما هو الحال في القطع، فكما لا يتقبل القاطع - مادام قاطعاً - سلب الحجية عن قطعه كذلك الحال بالنسبة إلى الاطمئنان.
والكلام فيه يقع في نقاط أربع: - النقطة الأولى: - هل الفعل المتجرى به قبيح أو ليس بقبيح؟، وبعبارة أخرى: - لو قطعت بأنَّ هذا الماء نجس ولكن رغم قطعي بذلك تناولته ثم اتضح أنه طاهر فهل هذا الفعل المتجرى به قبيح أو لا؟
النقطة الثانية: - هل الفعل المتجرى به حرام أو لا؟
النقطة الثالثة: - هل يستحق المتجري العقاب أو لا؟
النقطة الرابعة: - ثمرة البحث عن قبح التجري.
أما النقطة الأولى: - فتوجد في ذلك آراء ثلاثة: - الرأي الأول: - ما ذهب إليه العلمان الشيخ الأعظم والشيخ الخراساني، حيث انكرا قبح الفعل المتجرى به، نعم هو يكشف عن سوء السريرة وأنَّ النفس التي تخالف هذا القطع هي نفس غير صالحة أما الفعل في حدّ نفسه فهو ليس بقبيح، كما هو الحال في الالفاظ القبيحة الدالة على معانٍ قبيحة فإنَّها تكشف عن نفسية المتكلم بها، قال الشيخ الأعظم:-
( إنَّ المتجري لا اشكال في استحقاقه الذم من جهة انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته بذلك، وأما استحقاقه للذم من حيث الفعل المتجرى في ضمنه ففيه اشكال )[1]
.
فهو نفى الذم أو استشكل في ذلك ولازمه نفي القبح أو التوقف فيه وإلا لو كان الفعل قبيحاً فلماذا يتوقف في استحقاق المتجري الذم؟!! فتوقفه في استحقاق المتجري الذم يدل بالالتزام على أنه متوقف في قبح الفعل المتجرى به وإلا فسوف لم يتوقف في استحقاقه العقوبة، وهكذا ذكر الشيخ الخراساني(قده)[2]
.
وقد يستدل على ذلك بوجوه ثلاثة: - الوجه الأول:- ما ذكره الشيخ الخراساني(قده)[3]
، وحاصله:- إنَّ أيّ حيثية توجب قبح الفعل - أو حسنه - هي لا توجب القبح إلا إذا كانت مقصودةً للفاعل، فإذا كانت مقصودةً له فآنذاك يصير الفعل قبيحاً، ومن المعلوم إنَّ القاطع لا يقصد الفعل المتجرى به بما هو مقطوع الحرمة وإنما يأتي به بما هو فعل، فهو مثلاً اعتقد أنَّ هذا المال للغير فأكله ولكن حينما يأكله فهو لا يأكله بنيَّة وبقيد أنه مال الغير وطعامه حتى يصير الفعل قبيحاً وإنما يأكله بما هو طعام، قال:-
(إنَّ القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطاري الآلي)[4]
.
وفيه: - إنَّ في مقصوده احتمالين: - الاحتمال الأول:- أن يكون مقصوده أنَّ القاطع لا يشرب مقطوع الخمرية بما هو مقطوع الخمرية بل بما هو خمر، وهذا ما يعطيه ظاهر عبارته، فإن كان يقصد هذا المعنى فما ذكره صحيح، فإنه لا يشربه بنيَّة وبعنوان مقطوع الخمرية وإنما يشربه باعتقاد أنه خمر، فنحن نسلَّم أنَّ القطع بالخمرية ليس هو العلَّة للشرب وقد أُخِذ عنواناً للفعل ولكن نقول لا يلزم في حصول القبح أن يكون الشرب بما هو مقطوع الخمرية بحيث يأخذ حيثية القطع كغايةٍ وعلَّةٍ للشرب فإننا لا نسلّم اعتبار ذلك، بل يكفي حصول القطع في الجملة وإن لم يكن مأخوذاً قيداً في الشرب.
الاحتمال الثاني: - أن يكون مقصوده أنه حينما يشرب الاناء الذي قطع بكونه خمراً لا يوجد في ذهنه القطع لا من قربٍ ولا من بعدٍ فكيف يصير هذا الشرب قبيحاً مادمنا قد افترضنا أنه ذهنه بعيد عن القطع بتمام معنى الكلمة حين الشرب؟
وإذا يقصد هذا فالجواب: - إنَّ القطع ليس بغائبٍ عن ذهن الشارب غياباً تاماً وإلا لماذا يُقدم على شرب الاناء الذي يقطع بخمريته ولم يُقدِم على شرب الاناء الآخر الذي يقطع بكونه ماءً؟!!، فإذاً لابد أن يكون ذلك لحيثية القطع، وهذه الحيثية هي التي توجب القبح وإن لم تؤخذ عنواناً للشرب بل كانت هي سبب الشرب ونكتته، فأنا اشرب هذا الاناء ولا اشرب ذاك لأجل القطع، وهذا يكفي لتحقق القبح.