الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

45/03/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - أدلة قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومناقشتها - الأقوال في حجية القطع - حجية القطع.

الموقف عقلائياً: -

كل ما تقدم كان هو الموقف عقلاً وقد اتضح أنَّ مشهور الأصوليين قالوا بقبح التكليف من دون دليلٍ يدل عليه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأما الموقف عقلائياً فقد يكون مختلفاً عما هو الموقف عقلاً، فإنَّ العقلاء بما هم عقلاء ويعيشون محيطاً له أعرافه الخاصة قد لا يحكمون بما حكم به العقل في هذه المسألة، ولو رجعنا إلى العقلاء فإن فرض أنَّ احتمال ثبوت الشيء كان ضعيفاً كخمسة بالمائة مثلاً فليس من البعيد أنهم يبنون على عدم الاعتناء بمثل هذا الاحتمال الضعيف، فمثلاً إذا دخل شخصٌ إلى مدينةٍ وأراد الدخول في أحد شوارعها فإذا احتمل المنع من الدخول بدرجة ثمانين أو تسعين بالمائة فهذا احتمالٌ عقلائيٌ قويٌ وهو ما يعبر عنه بالاطمئنان فهنا يمكن أن يقال إنَّ هذا الاحتمال حجة، وكذلك الحال إذا ظننا بوجود مجلس تعزيةٍ في بيت شخصٍ من اصدقاءنا، فإنه إذا كان احتمال ذلك ثمانون بالمائة مثلاً أو أكثر فسوف نعتني بهذا وسنذهب إليه، وأما إذا احتمالنا انعقاد المجلس بدرجة عشرة بالمائة مثلاً فقد لا نعتني لذلك ... وهلم جرا.

فإذاً بحسب العقل عند الأصوليين - بناء على مسلك المشهور - يقبح العقاب بلا بيان، يعني أنَّ المدار على العلم، وأما من ناحية الجنبة العقلائية فإنهم كما يسيرون على العلم يسيرون على الاطمئنان أيضاً ولا ينحصر الأمر بالعلم، وعليه فيكفي الاطمئنان في ذلك فيكون حجةً أيضاً كالعلم.

وما ذكرناه يصير رداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان: - فإنَّ لازم هذه القاعدة عدم الاعتناء بالاطمئنان والحال أنَّ العقلاء يعتنون للاحتمال إذا كان بدرجةٍ معتدّ بها.

ويمكن أن يقال بشيءٍ آخر هو ثابتٌ لدى العقلاء أيضاً: - وهو التفرقة بين قوة المحتمل وقوة الاحتمال، فيمكن أن يقال إنَّ هذه التفرقة شيءٌ عقلائي، فإذا كان الاحتمال قوياً بدرجة ثمانين بالمائة مثلاً فسوف يؤخذ به، وإذا كان ضعيفاً ولكن توجد قوةٌ في المحتمل - كما لو فرض أني احتملت انَّ هناك جوائز توزع ككتاب الجواهر مثلاً في مكان معين فالمحتمل هنا معتد به وقوي فيعتني به - فسوف يعتنى به أيضاً، وهو مما جرت عليه سيرة العقلاء أيضاً.

وهل هناك ثمرة للبحث عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو لا، ولو رفضناها فهل يترتب على ذلك آثار أو لا؟

الجواب: - يمكن أن يقال إنَّ البحث عن البراءة العقلية وأنَّ قبح العقاب بلا بيان ثباتٌ أو ليس بثابت هو عديم الفائدة أو ربما تكون له فائدة قليلة، فحتى لو لم تتم قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنَّ ذلك لا يؤثر على موقف الأصولي شيئاً لوجود البديل عنها وهو البراءة الشرعية، أعني مثل قوله عليه السلام: - ( رفع عن امتي ما لا يعلمون ).

حجية الاطمئنان: -

فيما تقدم كنّا نتكلم عن حجية القطع، وقلنا لا اشكال في حجيته والكل متقف على ذلك - إما لما ذكره الاعلام أو لما ذكرناه - ولا يمكن لعاقلٍ أن يتوقف فيه حجيته، ويقع الكلام الآن في الاطمئنان، وهو ما دون القطع بقليل كثمانية وتسعين بالمائة مثلاً، وينبغي أن تكون حجيته واضحة، وذلك لانعقاد السيرة العقلائية على العمل به كما هي منعقدة على العمل بالقطع، وهذا مطلبٌ مسلّم.

ولا يمكن أن يقال: - إنَّ هذه السيرة مردوعٌ عن العمل بها شرعاً كما كان الظن مردوعاً عن العمل به شرعاً، وذلك للآيات الناهية عن اتباع غير العلم، فهذه الآيات كما تشمل الظن تشمل الاطمئنان أيضاً.

فإنه يمكن في الجواب أن يقال: -

أولاً: - إنَّ الاطمئنان هو علمٌ عرفاً وإن كان بحسب الدقة هناك فرقٌ بينه وبين العلم، فحسب الدقة المائة بالمائة هي غير الثمانية والتسعين أو التسعة والتسعين بالمائة، ولكن عرفاً الاطمئنان هو علمٌ أيضاً، والعلم الوارد في حديث (رفع عن امتي ما لا يعلمون) يراد به العلم العرفي دون العلم المنطقي الذي هو الانكشاف التام - مائة بالمائة، والعرف يرى أنَّ الثمانية والتسعين بالمائة هي علمٌ، والآيات الكريمة حينما نهت عن غير العلم فهي ناظرة إلى العلم العرفي وليست ناظرة إلى العلم المنطقي.

ثانياً: - إنَّ قوة الردع لابد وأن تتناسب مع قوة المردوع، وحيث إنَّ المردوع - يعني العمل بالاطمئنان - قويّ عرفاً فلابد وأن يكون الردع عنه قوياً أيضاً ومساوياً له في الدرجة ولا يكفي ورود آيتين أو ثلاثة أو أربعة بعدما كانت الحالة المتعارفة لدى الناس العقلاء هو العمل بالعلم العرفي، فلو كان الاطمئنان ليس بحجة لكان اللازم الردع المكثف عن العمل به في القرآن الكريم.

ثالثاً: - إذا كان الشرع قد ردع عن العمل بالاطمئنان فلابد وأن ينصب بديلاً عنه ولا يكفي أن يكون البديل هو العلم فإنَّ العلم في الحياة العقلائية قليل، والمفروض أنه لا يوجد هذ البديل بل الأمر بالعكس فإنَّ الحالة العقلائية المعروفة هي العمل بالاطمئنان، وأما البيّنة - مثلاً - أو ما شاكلها فلا يصلح أن يكون بديلاً عن الاطمئنان فإنَّ الحالة العرفية العامة بين العقلاء هي العمل على طبقه، وعليه فلا ينبغي التشكيك في حجيته.