الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/11/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه السادس من تنبيهات الاستصحاب ( استصحاب الكلي والفرد المردد )- مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

التنبيه السادس: - استصحاب الكلي والفرد المردد.

المستصحب تارةً يكون هو الكلي، وأخرى يكون هو الفرد، فإذا كان المستصحب هو الكلّي فيعبر عنه باستصحاب الكلي، وإذا كان المستصحب هو الفرد فيعبر عنه باستصحاب الفرد.

والفرد الذي يراد استصحابه تارةً يكون معيناً، وأخرى يكون مردداً بين فردين، فإن كان معيناً فيصطلح عليه باستصحاب الجزئي، وإن كان مردداً بين فردين مثل استصحاب الجائي ونحن لا نعلم أنه زيد أو عمرو فهذا يعبر عنه باستصحاب الفرد المردد.

ثم إنه إذا كان المستصحب هو الفرد فتارةً يكون فرداً معيناً كاستصحاب زيد كان موجود أولاً والآن نشك فنستصحب بقاءه وهذا ما يعبر عنه باستصحاب الجزئي، وأخرى يكون ليس معيناً أي مردداً بين زيدٍ وعمرو مثلاً فهذا ما يعبر عنه باستصحاب الفرد المردد.

ونشير هنا إلى بعض النقاط: -

النقطة الأولى: - ليس المراد من الجزئي في علم الأصول هو الجزئي بالمعنى المنطقي الذي هو بمعنى أنه لا يصدق على كثيرين، وإنما المقصود من استصحاب الجزئي هو استصحاب الوجود الضيق بالنسبة إلى غيره الذي هو أوسع منه، فمثلاً إذا كنا نعلم بوجود انسانٍ في الدار ثم شككنا في بقائه فمرة نستصحب وجود الانسان ومرة نستصحب وجود الحيوان، فالإنسان وجوده أضيق من وجود الحيوان، فيعبر عن استصحاب وجود الانسان بأنه استصحاب جزئي رغم أنَّ الانسان ليس جزئياً بالمعنى المنطقي ولكن بما أنَّ وجوده اضيق من الحيوان ففي علم الاصول يعبر عنه باستصحاب الجزئي، وأما استصحاب الحيوان فيعبر عنه باستصحاب الكلي، وهكذا الحال في استصحاب وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة، فمرة نستصحب وجوب الصلاة أعم من الظهر ومن الجمعة، فاستصحاب وجوب صلاة الظهر يعبر باستصحاب الفرد رغم أنَّ الوجوب لأصل صلاة الظهر كلي، فالاستصحاب هنا ليس لأمرٍ جزئي بالمعنى المنطقي لأنَّ هذا ينطبق على ككثيرين فهو ليس جزئياً بالمعنى المنطقي ولكن بما أنَّ وجوده اضيق من وجوب الصلاة الأعم من الظهر والجمعة نعبر عنه باستصحاب الفرد، أما استصحاب الوجوب الأعم من الظهر والجمعة فيعبر عنه باستصحاب الكلي رغم أن استصحاب وجوب الظهر من الزاوية المنطقية هو كلي أيضاً، إذ نحن لا نستصحب وجوب صلاة الظهر لك بل نستصحب أصل وجوب صلاة الظهر، وهذا استصحابٌ لأمرٍ كلّي بالمعنى المنطقي ولكن بالمصطلح الأصولي يعبر عنه باستصحاب الجزئي. هذه قضية.

وهناك قضية أخرى: - وهي أنَّ الجزئي لا إشكال في أنَّ له وجود في الخارج، ولكن الكلي هل له جود في الخارج حتى يجري استصحابه أو لا؟

والجواب: - ذكر في المنطق أنَّ الكلي موجود بأفراده وليس له وجود آخر غير وجود افراده، وعليه فحينما نستصحب وجود الكلي لا يقصد من ذلك وجودٌ للكلي بالمعنى الحقيقي وإنما يقصد الوجود الأوسع كما بيّنا.

إلا بناءً على رأي الرجل الهمداني: - حيث يدّعي أنَّ الكلي له وجود منحازٌ ومغايرٌ لوجود أفراده، فبناءً على رأيه سوف يصير الفرق بين استصحاب وجود الجزئي ووجود الكلي واضحاً، فاستصحاب وجود الكلي هو عبارة عن استصحاب ذلك الوجود الذي قال به الرجل الهمداني.

وهكذا يصير الفرق واضحاً إذا بنينا على ما يظهر من بعض كلمات الشيخ العراقي(قده): - حيث يظهر منها أنَّ الكلي موجودٌ بالحصص، يعني أنَّ حصةً من الكلي موجودة في زيد، وحصةً أخرى موجودةً في عمرو ... وهكذا بعدد الإفراد، وتلك الحصة في كل فرد هي عبارة عن الكلّي، والفرد هو عبارة عن الحصة من الكلي زائداً المشخصات، فلو بنينا على رأي الشيخ العراقي(قده) فسوف يصير الفرق بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلي واضحاً أيضاً، فإنَّ استصحاب الكلي عبارة عن استصحاب الحصة، وأما استصحاب الفرد فهو عبارة عن استصحاب هذه الحصة المشخصة بهذه المشخصات الخاصة.

أما على الرأي المشهور الذي يقول بأنه لا يوجد وجودٌ للكلي منحاز عن وجود افراده كيف يجري الاستصحاب؟

والجواب: - إنه بناءً على هذا الرأي نقول إنَّ وجود الفرد هو عين وجود الكلي غايته أن الفرد هو عبارة عن الكلي مع المشخصات، فوجود الفرد هو بوجود الكلي لا أنَّ هناك وجودان، وعليه فتارةً نستصحب هذا الوجود الخاص فيعبر عنه باستصحاب الجزئي، وأخرى نغض النظر عن الخصوصية فيعبر عنه باستصحاب الكلي، فزيدٌ مثلاً هو انسان زائداً المشخصات من طولٍ ولون بشرةٍ وما شاكل ذلك، فتارةً نستصحب هذا الوجود بمشخصاته فيصير من استصحاب الجزئي، وتارةً نستصحب هذا الوجود بغض النظر عن المشخصات فيصير من استصحاب الكلي، لا أن الانسان له وجود آخر كما ينسب إلى الرجل الهمداني ونجري الاستصحاب فيه، ولا أنه موجودٌ بالحصص كما ذكر الشيخ العراقي(قده)، وإنما كل واحدٍ منا هو انسانٌ أما بأيَّ شكلٍ وجد الانسان فهذا لا يهمنا، ولا ينبغي تحميل القضايا الدقية الفلسفية على علم الأصول، بل نقول مرة يستصحب الشيء بوجود المشخص الخاص كزيدٍ مثلاً بوجوده الخاص فنستصحب بقاءه فهذا استصحاب الجزئي، ومرة نستصحب الوجود بقطع النظر عن هذه المشخصات وهذا ما يصطلح عليه باستصحاب الكلي، فالفارق هو هذا بقطع النظر عن مسألة الوجود بالحصص أو بالوجود المستقل.

والخلاصة: - إنَّ المقصود من استصحاب الكلي والجزئي في علم الأصول هو هذا، فتارةً نستصحب هذا الوجود الخاص الضيق وهذا هو استصحاب الجزئي، وأخرى نلحظه بما هو انسان مثلاً بقطع النظر عن هذه المشخصات فنستصحب وجود الانسان وهذا استصحاب الكلي.

ونفس الشيء نقوله في صلاة الظهر والجمعة، فمرةً نستصحب وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة فهذا استصحاب للجزئي، ومرةً نستصحب وجوب الصلاة لا بقيد الظهر فهذا استصحابٌ للكلي، فالمراد من استصحاب الكلي واستصحاب الجزئي في علم الأصول هو هذا.