الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/11/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب ( الاستصحاب في مؤدى الأمارة ) - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

وأما النحو الثالث فهو وجوب أو استحباب الدعاء عند رؤية الهلال، حيث دلت الأمارة على أنَّ الدعاء عند رؤية الهلال واجب مثلاً والقدر المتيقن منه أنه إذا رأى المكلف الهلال فهنا يجب عليه الدعاء، أما إذا رأى الهلال ولكنه ذهل عن الدعاء حتى مضت خمس دقائق مثلاً فهنا هل يبقى الدعاء واجباً بَعدُ أو لا، فإننا سوف نشك في ذلك، ففي مثل هذه الحالة كيف نجري الاستصحاب؟

قد يقال: - نحن نستصحب بقاء وجوب الدعاء، فإنَّ وجوب الدعاء كان ثابتاً سابقاً والآن نشك في ذلك فنستصحب بقاء الوجوب.

ولكن نقول: - إننا فرضنا أنَّ الوجوب ثابت بالأمارة - يعني أنَّ صحيحة زرارة قد دلت عليه لا أنه يوجد عندنا يقين بوجوبه - وليس ثابتاً باليقين، وشرط جريان الاستصحاب هو اليقين، ولا يقين عندنا.

وقد يقول قائل في الجواب: - نحن نستصحب التعبّد بوجوب الدعاء على غرار ما ذكرناه في المثال الثاني وهو استصحاب بقاء التعبّد بالنجاسة، فكما استصحبنا التعبّد ببقاء النجاسة هنا أيضاً نستصحب بقاء التعبّد بالوجوب.

ولكن نقول: - إنَّ التعبّد بالوجوب ليس شيئاً وراء الوجوب حتى يمكن استصحابه، وإنما التعبّد بالوجوب هو عبارة عن الحكم بالوجوب، نعم إذا قلنا بأنَّ التعبَّد بالوجوب هو غير الوجوب فهنا سوف نستصحب بقاء الوجوب، أما إذا قلنا بأنَّ التعبّد بالوجوب ليس شيئاً وراء الوجوب فسوف لا ينفعنا هذا شيئاً.

والجواب الصحيح أن نقول: - إنَّ صحيحة زرارة التي قالت:- ( لا تنقض اليقين بالشك ) المقصود من اليقين فيها ليس هو اليقين بالمعنى الحقيقي الدّقي وإنما المقصود منه بحسب الارتكاز العقلائي - أو المتشرعي - هو مطلق الحجة، يعني لا ترفع يدك عن الحجة بالشك وإنما ارفع يدك عنها بحجةٍ أخرى، فالمقصود من اليقين هو مطلق الحجة، هكذا يقتضي الارتكاز العقلائي - أو الفهم المتشرعي - واليقين ليست له خصوصية وإنما الخصوصية هي للحجة، فلا ترفع يدك عنها بالشك بل ارفع يدك عنها بالحجة الأخرى، وعلى هذا الأساس نقول حيث إنَّ الأمارة هي حجة شرعية فلا نرفع اليد عنها إلا بحجةٍ أخرى، وفي مثل هذه الحالة نقول مادامت الحجة السابقة - وهي الأمارة - قد دلت في مورد رؤية الهلال على وجوب الدعاء فلا نرفع اليد عنها إلا بحجةٍ أخرى، وحينئذٍ يرتفع هذا الاشكال.

ولا يخفى أننا إذا قبلنا بهذا الجواب هنا فيمكن أن نسحبه إلى المورد الأول والثاني، ففي المورد الأول قامت الأمارة على النجاسة وهناك قلنا نستصحب عدم تحقق الغسل إذا شككنا هل غسلناه أو لا، فعندنا يقين بعدم الغسل فنستصحب عدم الغسل، ولكن هذا الجواب الذي ذكرناه إذا تم في النحو الثالث يأتي في النحو الأول أيضاً، فنقول مادامت الأمارة قد دلت على أنَّ هذا الشيء نجس فلا نرفع اليد عن هذه الأمارة الدالة عن النجاسة- أي هذه الحجة - إلا بالحجة الأخرى ومجرّد الشك لا يكفي لرفع اليد عن الحجة الأولى، وهكذا يأتي هذا الجواب في النحو الثاني أيضاً.

ولكن يبقى شيء: - وهو أنه ما الفرق بين هذا الجواب وبين ما ذكره الشيخ النائيني(قده) من جواب، فإنه بنى على ما ذكرناه أيضاً، وعليه فنحن لم نذكر جواباً جديداً غير ما ذكره من جواب؟

وفي الردّ نقول:- إنَّ الشيخ النائيني(قده) لم يفسّر اليقين بالحجّة وإنما قال إنه بناءً على مسلك جعل العلمية في باب الأمارة تكون الأمارة فرداً - تعبّدياً - من أفراد اليقين، يعني أنَّ دليل حجيتها يكون حاكماً على اليقين باعتبار أنَّ المجعول فيها هو العلمية، أما نحن فنقول إنَّ العقلاء لا يهمهم الحكومة أو غير الحكومة وإنما العاقل حينما يسمع حديث ( لا تنقض اليقين بالشك ) يفهم منه أنه لا ترفع اليد عن الحجة، فهو يفهم من اليقين الاشارة إلى الحجّة، والحجّة قد تكون هي اليقين وقد تكون شيئاً آخر - يعني الأمارة - وعلى هذا الأساس يكون المعنى لا ترفع اليد عن الحجة إلا بحجةٍ أخرى، وبناءً على هذا يكون المورد من موارد الورود، يعني أنَّ دليل حجية الأمارة يرفع خصوصية اليقين حقيقةً، لأنَّ اليقين قد أخذ بنحو الاشارة إلى مطلق الحجّة، فهو يوجد فرداً جديداً من أفراد اليقين وهو عبارة عن الأمارة. هكذا ينبغي أن يقال في التغلّب على الاشكال.