43/11/13
الموضوع: - التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب ( الاستصحاب في مؤدى الأمارة ) - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.
ويرد عليه: -
أولاً: - صحيح أنَّ كلمة اليقين لم تذكر ولكن قد يتسامح الانسان العرفي ويترك ذكرها حينما يكون افتراض وجودها واضحاً، وفي المقام المفروض أنَّ عبد بن سنان كان عنده يقين بأنَّ الثوب طاهر، ففي مقام التعليل قد يتسامح الانسان العرفي ولا يذكر كلمة اليقين وإنما يذكر المتيقن - الذي هو متعلَّق اليقين - فيقول أعرته الثوب وهو طاهر حسب الفرض، وعليه فلا حاجة إلى أن يشير إلى اليقين، فنعلّل بنفس الطهارة من دون حاجةٍ إلى ذكر اليقين بالطهارة، ونحن قد نستعين بمثل هذا التعبير في عرفياتنا حيث نقول للطرف ( إنك قلت إنه كان طاهراً ) ومقصودنا أنه متيقن الطهارة ولكن نحذف ( يقين ) لوضوح ذلك.
ثانياً: - إنَّ الروايات الأخرى قد ذكرت كلمة اليقين وقالت ( لا تنقض اليقين بالشك ) - وهذا ما ورد في صحيحة زرارة الثانية - وعلى هذا الأساس سوف يثبت من خلال هذه الروايات أنَّ اليقين معتبرٌ في حجية الاستصحاب، ولا مرجّح لهذا النقل على ذلك النقل، فيتعارض النقلان وبالتالي لابد وأن نقتصر على القدر المتيقن، والقدر المتيقن هو حالة وجود اليقين، إذ في حالة عدم اليقين نشك هل الشرع جعل الحجية للاستصحاب أو لا.
ثالثاً: - إنَّ صحيحة ابن سنان قد نُقِلت بنقلين أحدهما ما ذكره السيد الشهيد(قده)، يعني ( أعرته إياه وهو طاهر ) ولم يقل ( وهو متيقن الطهارة )، ولكن لها يوجد نقل آخر لم يذكر هذا التعليل، أذ النقل الأول هو:- ( سأل أبي أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده عليه فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ قال أبو عبد الله عليه السلام:- صل فيه ولا تغسله من اجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه )[1] فهنا الامام لم يعلل باليقين بالطهارة وإنما علل بنفس الطهارة حيث قال ( أعرته غياه وهو طاهر ).
وقد يقول قائل: - إنَّ عبد الله بن سنان ليس هو السائل حتى يكون نقله حجة وإنما الذي سأل الامام عليه السلام هو أبوه سنان وسنان لا يوجد في حقه توثيق، فالرواية لا تنفعنا لعدم وثاقة سنان؟
قلنا: - إنَّ الابن - وهو عبد بن سنان - كان حاضراً وهو الذي ينقل لنا سؤال أبيه وجواب الامام عليه السلام، ومادام عبد الله هو الذي ينقل الحديث فنأخذ بنقله فإنه ثقة.
وأما النقل الثاني للرواية فهو:- ( سأل أبي أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجرّي ويسرب الخمر فيردّه أيصلي فيه قبل أن يغسله؟ قال:- لا تصلّ فيه حتى تغسله )[2] ، ففي هذا النقل لا يوجد التعليل المذكور في النقل الأول، وعليه فيوجد تعارض بين النقلين، فيكون الاعتماد على النقل الأول مشكلٌ بعد تعارضه مع النقل الثاني.
نعم يمكن أن يدفع هذا الاشكال ويقال: - صحيح أنَّ التعليل لم يذكر في النقل الثاني ولكن يدور الأمر بين ما ذكر في النقل الأول وكونه زيادةً تبرّع بها الراوي عبد الله بن سنان اشتباها وبين النقيصة في النقل الثاني حيث حذف الزيادة ولم ينقلها، وعند الدوران بين الزيادة والنقيصة فالأصل عند العقلاء هو عدم الزيادة فإن الانسان عادةً قد يشتبه فينقص لا أنه يشتبه فيزيد زيادة أكثر من كلمة واحدة، وحينئذٍ نطبق أصالة عدم الزيادة ويكون لصالح النقل الأول للرواية.
ولكن نقول: - إنَّ هذا مقبول فيما إذا فرض أنَّ النقيصة كانت كلمة واحدة أو كلمتين، أما إذا كانت النقيصة أكثر من ذلك كجملةٍ مثلاً فاحتمال كون الراوي قد سهى وأنقص بعيد، وهنا يصعب اجراء أصالة عدم النقيصة، وعليه فسوف تبقى الأصالتان والنقلان متعارضان.
كما أنَّ احتمال كون هاتان روايتين واردتين في حادثتين مختلفتين بعيدٌ أيضاً.
مضافاً إلى ذلك أنه يوجد شيء آخر: - فإنه في النقل الثاني ذكرت الرواية أنَّ الامام عليه السلام قال لابد من غسل الثوب، فيصير تناقض بين الحكمين، فلا ندري من هو الصادر منها هل هو الأول أو الثاني.
الجواب الثالث:- ما ذكره الشيخ النائيني(قده)[3] ، وحاصله:- إنه بناءً على مسلك جعل العلمية، يعني أن المجعول في الأمارة هو العلمية فإنَّ الشارع قد جعلها علماً وكذلك العقلاء يأخذون بالأمارة من باب أنهم يجعلونها علماً، فإذا صارت علماً فعند قيامها يتحقق بذلك العلم ويرتفع الاشكال من أساسه، لأنَّ الاشكال كان يقول كيف يجري الاستصحاب في مؤدى الأمارة والحال أنه لا يوجد علمٌ في مؤداها، ولكن على رأي الشيخ النائيني(قده) والسيد الخوئي(قده) نقول بل يوجد علم، فإنَّ المجعول في باب الأمارة هو العلمية، وعليه فسوف يرتفع الاشكال.
والجواب: - إنه لو سلّمنا بمسلك جعل العلمية وأنَّ المجعول في باب الأمارات هو العلمية ولكن نقول إنَّ المستند في كون الأمارة مجعولةً علماً هو سيرة العقلاء، فإنَّ العقلاء حينما يعملون بالأمارة فهم يعملون بها من باب أنها كالعلم، فالمجعول عند العقلاء هو العلمية، وحيث لا ردع شرعي عن هذه السيرة فيثبت الامضاء، فإذا اتضح أنَّ المدرك هو سيرة العقلاء فحينئذٍ نقول:- نحن نرجع إلى العقلاء ونسألهم هل بحسب وجدانهم العقلائي المجعول هو العلمية في باب الأمارة من باب التنجّز - أي المنجّزية والمعذرية -–فقط أو أن المجعول هو العلمية من حيث المنجّزية والمعذّرية بإضافةً إلى جعل العلمية من حيث العلم الموضوعي يعني جعلها علماً موضوعياً يعني يتحقق بها الموضوع بقطع النظر عن التعذير والتنجيز، فبالأمارة يتحقق الموضوع، لأنَّ موضوع الاستصحاب هو العلم بالحالة السابقة، فالعقلاء حينما يجعلون الأمارة علماً فهل هم يجعلونها حتى بلحاظ غير التنجيز والتعذير أي حتى بلحاظ جريان الاستصحاب أيضاً، فالحالة السابقة إذا ثبتت بالأمارة يجعلونها علماً ومعلومة فيجري الاستصحاب، فهل العقلاء يجعلونها علماً من حيث المنجّزية فقط أو الأعم من ذلك؟ القدر المتيقن أنهم يجعلونها علماً من حيث المنجّزية، أما من حيث الموضوعية وأنه يتحقق بها موضوع الدليل وهو العلم فهذا لا يجزم به، ويكفينا الشك وعدم الجزم.
فإذاً جعل العلمية لا ينفع العلمين، لأنَّ المجعول هو العلمية لدى العقلاء، والقدر المتيقن منه هو جعل العلمية من حيث التنجيز والتعذير، أما من حيث الموضوع - وهو العلم - وأنه يتحقق بالأمارة فهو مشكوكٌ، ويكفينا الشك لبطلان هذا الدليل.