الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

43/10/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب ( الاستصحاب في الموضوعات المركبة ) - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.

الاستصحاب في موارد تبادل الحالتين: -

الاستصحاب تارةً يكون في الموضوعات البسيطة، وأخرى يكون في الموضوعات المركبة، وثالثةً في مورد تبادل الحالتين، ومثال الأول ما لو شك الشخص في أنَّ ثوبه طاهر أو لا بأن كان طاهراً سابقاً ولكن شك بعد ذلك فهنا يستصحب الطهارة، وهذا استصحابٌ في موضوع بسيط فإنَّ الطهارة من الموضوعات البسيطة فنستصحبها، ومثال الثاني فكما مثلنا بنجاسة الماء التي موضوعها عدم الكرّية زائداً الملاقاة، فموضوع الحكم بالنجاسة مركّب من جزأين، وهذا ما تحدثنا عنه سابقاً، ومثال الثالث كما لو فرض أنَّ الشيء طرأت عليه حالتان ولا يعرف السابقة منهما عن اللاحقة، كما لو طرأت عليه الطهارة على الثوب في زمانٍ بأن غسل في زمانٍ وتنجّس في زمانٍ آخر ولا يدرى تقدم النجاسة على الغسل حتى يكون طاهراً الآن أو بالعكس فيكون نجساً الآن، وهذا ما يقال عنه بالاستصحاب في مورد تبادل الحالتين، وكلامنا يقع الآن في هذا القسم الثالث، أما القسم الأول - وهو الاستصحاب في الموضوعات البسيطة - فهو واضح وهو القدر المتيقن من حجية الاستصحاب، وأما القسم الثاني - وهو الاستصحاب في الموضوعات المركّبة - فهذا ما كنا نتكلّم عنه سابقاً، أما الآن فنتحدث عن الاستصحاب في مورد تبادل الحالتين وهل المناسب جريان الاستصحاب في هذا القسم أو لا؟

والجواب: - المناسب أن استصحاب الحالة الأولى يعارض استصحاب الحالة الثانية، يعني أنَّ كل واحدة من الحالتين هي قابلة للاستصحاب، فحينئذٍ نستصحب النجاسة لأنه حتماً قد اصابته نجاسة في وقتٍ ما ونشك هل زالت أو لا فنستصحب بقاء النجاسة، وحينما غسل بالماء فجزماً قد طهر، فتلك الطهارة بعد الغسل سوف نستصحبها، فإذاً كل واحدةٍ من هاتين الحالتين قابلة للاستصحاب لولا المعارضة فهما يتساقطان بسبب المعارضة، نعم قد يوجد شيء آخر، وهو أننا نجري أصل الطهارة ولكن هذه قضية ثانية أما الاستصحاب فهو لا يجري للمعارضة.

ولكن قد يقال: - إنَّ الاستصحاب لا يجري في حدّ نفسه قبل أن تصل النوبة إلى المعارضة، وقد ذكرت لذلك وجوهٌ نقتصر على اثنين منها: -

الوجه الأول:- ما أفاده الشيخ العراقي(قده)[1] ، وحاصله:- إنَّ الطهارة إذا فرض أنها كانت واقعة في الساعة الأولى فالنجاسة واقعة في الساعة الثانية، لأننا نعلم أنهما لم يطرءا في ساعةٍ واحدةٍ وإنما تنجّس في وقتٍ وغسل في وقتٍ آخر ولكن لا نعلم السابق منهما من اللاحق، فإذا كانت الطهارة حاصلة في الساعة الأولى فحينئذٍ تكون النجاسة في الساعة الثانية وبذلك تكون الطهارة السابقة معلومة الارتفاع ولا يوجد شك في بقائها كي يجري الاستصحاب، وإذا فرض العكس - يعني أنَّ النجاسة كانت موجودة أولاً ثم حصلت الطهارة في الساعة الأخرى - فحينئذٍ تكون الطهارة معلومة البقاء، فالشك ليس بموجودٍ لا في بقاء الطهارة حتى يجري استصحابها ولا في بقاء النجاسة حتى يجري استصحابها قبل أن تصل النوبة إلى المعارضة، يعني نقول هكذا:- إذا كانت الطهارة في الساعة الأولى فسوف تكون النجاسة في الساعة الثانية وبالتالي تكون معلومة البقاء، وإذا فرض العكس فسوف تكون الطهارة الثابتة في الساعة الثانية معلومة البقاء فإذا الشك ليس موجوداً حتى يجري الاستصحاب وبالتالي لا تصل النوبة إلى المعارضة حتى نقول بالتساقط بسبب التعارض بل الاستصحاب غير قابل للجريان في حدّ نفسه.

وفي الجواب نقول: -

أولاً: - إنه أخذ الساعة الأولى قيداً للطهارة وقال إذا كانت الطهارة قد حدثت في الساعة الأولى فهي مرتفعة جزماً بالنجاسة وتكون النجاسة في الساعة الثانية وبالتالي لا تكون النجاسة مشكوكة البقاء بل تكون معلومة البقاء فلا يجري استصحبها، ونحن نقول:- أنت لاحظت الطهارة بقيد الساعة الأولى ولاحظت النجاسة بقيد الساعة الثانية، أو بالعكس، ونحن نقول:- صحيحٌ أنه إذا أخذت الطهارة مقيدة بالساعة الأولى فهي قد ارتفعت جزماً بالنجاسة في الساعة الثانية فلا مجال لجريان الاستصحاب لأنَّ الشك في البقاء ليس بموجود، ولكن نقول:- لماذا أخذت الطهارة المستصحبة بقيد الساعة الأولى، فإنه إذا أخذتها بقيد الساعة الأولى أو بقيد الساعة الثانية فصحيح أنه لا يوجد شك في البقاء هنا ولكن نقول هناك طهارة نعلم جزماً بأنها قد حدثت ونشك في ارتفاعها فاستصحاب الطهارة لا يجري، وهكذا النجاسة، فنحن نعلم بأنَّ هذه النجاسة قد حدثت جزماً في هذا الثوب في زمانٍ ونشك في ارتفاعها، فعلى هذا الأساس كلا الاستصحابين قابلان للجريان ولكن بهذا الشكل، نعم إذا قيدت فسوف لا يجري الاستصحاب، ولكن نقول توجد طريقة ثانية وهي صحيحة حيث نقول نحن نعلم أنه وقعت النجاسة على هذا الثوب جزماً في زمانٍ ونشك في ارتفاعها فعليه يجري استصحاب النجاسة، وكذلك يجري استصحاب الطهارة لولا المعارضة، وإنما لا يجري حينما قيدت النجاسة بقيد الساعة الأولى فيقال إذا طرأت النجاسة في الساعة الأولى فقد ارتفعت بالطهارة في الساعة الثانية فلا شك، فإذا قيدت النجاسة بقيد الساعة الأولى فيأتي ما أفدته، ولكن في نفس الوقت يمكن أن نلحظ أصل النجاسة من دون ملاحظة هذا القيد ونقول هناك نجاسة واقعة جزماً على هذا الثوب ونشك في ارتفاعها، وهكذا نقول قد طرأت طهارة على هذا الثوب جزماً ونشك في ارتفاعها.

فإذاً الاستصحاب من كلا الجانبين قابل للجريان لولا المعارضة، وإنما لا يقبل الجريان فيما إذا أخذنا الطهارة أو النجاسة مقيدة بالساعة الأولى فحينئذٍ يتم ما أفيد، أما إذا لاحظنا أصل الطهارة أو أصل النجاسة فحينئذٍ الاستصحاب قابل للجريان لولا المعارضة.

ثانياً:- أنت قلت لا يوجد شك في البقاء فإنَّ النجاسة إذا طرأت في الساعة الأولى فجزماً قد طرأت الطهارة بعد ذلك فارتعفت النجاسة فلا شك في البقاء وشرط جريان الاستصحاب وجود الشك في البقاء وهنا لا شك في البقاء، ونحن نقول:- ليس من أركان الاستصحاب الشك في البقاء، فإنَّ الشك في البقاء ليش شرطاً في جريان الاستصحاب وإنما أركان الاستصحاب هما اليقين والشك، فإن الدليل قال ( لا تنقض اليقين بالشك )، أما أن يكون الشك في البقاء فليس بلازم فإنَّ روايات باب الاستصحاب لم تأخذ عنوان لشك في البقاء، فإذا كان المدار على عنوان اليقين والشك ولا يوجد قيد ( في البقاء ) فهنا يوجد عندك يقين بالطهارة وشك فيها فيجري الاستصحاب لولا المعارضة.


[1] نهاية الأفكار، العراقي، ج4، ص215.