43/07/19
الموضوع: - التنبيه الثالث ( الأصل المثبت ) - تنبيهات الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.
تنبيهات بحث الأصل المثبت: -
الأول: - إنَّ اللازم الذي يقال بأنه لا يثبت من خلال الأصل المثبت والاستصحاب لا يثبت لوازمه الشرعية هو يتم فيما إذا فرض أنه لم تكن هناك حالة متيقنة سابقة لللازم وإلا جرى الاستصحاب في اللازم.
فإذاً ينبغي التفصيل بين ما إذا لم تكن في مورد الأصل المثبت حالة سابقة متيقنة، وبين ما إذا كانت هناك حالة سابقة متيقنة، فإذا لم تكن هناك حالة سابقة متيقنة فهذا هو مورد الأصل المثبت، وأما إذا كانت هناك حالة سابقة متيقنة بلحاظ الأثر فنجري الاستصحاب بلحاظ الأثر، ونذكر بعض الأمثلة للحالة الأولى، كما نذكر أمثلة للحالة الثانية.
أما أمثلة الحالة الأولى: -
فمن قبيل:- استصحاب عدم الحاجب في باب الوضوء أو الغسل، فإذا توضأ شخص ثم شك أنَّ شيئاً هو حاجب أو هل يوجد حاجب أو لا، فهنا الشك مرة يكون في حاجبية الموجودة، ومرّةً يكون الشك في أصل وجود الحاجب، فهنا استصحاب عدم وجود الحاجب يراد به وصول الماء إلى البشرة، ومعلومٌ أنَّ هذا لازمٌ غير شرعي، وليست هناك حالة سابقة لوصول الماء إلى البشرة حتى نستصحب وصول الماء إلى البشرة، بل بالعكس فإنَّ الحالة السابقة هي عدم الوصول، والنتيجة هي أنه لا يثبت صحة الوضوء لا باستصحاب عدم الحاجب لأنه أصل مثبت، ولا بأصلٍ ينقّح لنا وصول الماء إلى البشرة كاستصحاب وصول الماء إلى البشرة لفرض أنَّ الحالة السابقة ليست هي الوصول بل عدم الوصول، فالذي يجري هو عدم الوصول.
ومن قبيل: - هو استصحاب حياة الولد لإثبات نبات لحيته كما لو نذر الأب أنه متى ما نبتت لحية ولدي فسوف اتصدق على الفقير بكذا وقد ذهب الولد إلى بلدٍ آخر وانقطعت أخباره، ففي مثل هذه الحالة يشك في بقاء حياته فيجري استصحاب حياته ومن خلاله نثبت نبات لحيته، ولكن هذا أصلٌ مثبت، فإنَّ نبات اللحية ليس لازماً شرعياً لبقاء الشخص على قيد الحياة، كما أنَّ الحالة السابقة ليست هي نبات اللحية حتى تستصحب وإنما الحالة السابقة هي عدم نبات اللحية، فإذاً لا يمكن اثبات اللازم من خلال الأصل العملي.
وما مثال الحالة الثانية: -
فمن قبيل: - استصحاب حياة زيد لإثبات أنه يأكل ويشرب، لأنه إذا كان يأكل ويشرب فسوف تجب على وليه النفقة عليه، فهنا باستصحاب حياة الولد لا يثبت أنه يأكل ويشرب لأنَّ هذا لازم غير شرعي، ولكن بالإمكان اثبات أنه يأكل ويشرب بأصلٍ آخر، وهو استصحاب الأكل والشرب، لأنه حينما ولد ففي اليوم الأول الثاني من حياته كان يأكل ويشرب والآن نشك هل يأكل ويشرب أو لا فنستصحب اتصافه بحالة الأكل والشرب.
ومن قبيل: - استصحاب العلَّة لإثبات بقاء المعلول فإنَّ ذلك أصل مثبت، إذ ليس بقاء المعلول من اللوازم الشرعية لبقاء العلّة وإنما هو لازم عقلي، فاستصحاب بقاء العلَّة لإثبات بقاء المعلول أصلٌ مثبت، ولكن يمكن التعويض عنه بما لا يلزم منه الأصل المثبت، فإنَّ العلَّة مادامت موجودةً سابقاً فحتماً كان يوجد المعلول ونشك في زوال المعلول فنستصحب بقاءه من دون أن نبتلي بمحذور الأصل المثبت.
ومن قبيل: - استصحاب البنوّة لإثبات الأبوّة أو بالعكس، فإنَّ هذا أصلٌ مثبت كما هو واضح، فإنه لا يوجد دليل شرعي يقول إذا كانت الأبوَّة موجودة فالبنوَّة موجودة أو بالعكس وإنما هذه ملازمة غير شرعية، ولكن يمكن التغلّب على مشكلة الأصل المثبت بأن نقول حينما كانت الأبوَّة موجودة في اليوم الأول كانت البنوَّة موجودة في اليوم الأول أيضاً، فنجري الاستصحاب في بقاء البنوَّة لا في بقاء الابوَّة لإثبات البنوَّة.
ومن قبيل: - ما إذا كان عندنا حوض فيه ماء بمقدار كر وشككنا بعد ذلك هل نقص الماء عن الكرية أو لا، فهنا توجد طريقتان أحدهما يلزم منها محذور الأصل المثبت والثانية لا يلزم منها محذور الأصل المثبت، أما الطريقة التي يلزم منها محذور الأصل المثبت فنقول إنه سابقاً كان يوجد في هذا الحوض ماء بمقدار كر والآن نشك فنستصحب أنه موجودٌ في الحوض أيضاً، ولكن هذا أصل مثبت، وهذا لا يثبت مطلوبنا وإنما نحن نريد أن نثبت أنَّ هذا الماء متّصف بالكرية وأنت باستصحاب بقاء وجود الكر في الحوض تريد أن تقول إذاً هذا الماء متّصف بالكرية، وهذه الملازمة ليست شرعية ، وإنما الاستصحاب الصحيح أن نقول إنَّ هذا الماء الموجود في الحوض كان متّصفاً بالكرية وبعد الشك في كريته ستصحب كريته إلى الآن، فنشير إلى الماء ونجري الاستصحاب فيه ولا نشير إلى الحوض ونجري الاستصحاب فيه.
ومن قبيل: - استصحاب وجود البياض على الورقة لإثبات عدم السواد، فإنَّ هذا أصلٌ مثبت، فإنه لا دليل شرعي يقول إذا كان البياض موجوداً على الورقة فالسواد يكون منتفياً، وإنما العقل يقول بذلك من باب التضاد بين السواد والبياض، فإذا كان البياض موجوداً فالسواد ليس بموجود، فإذاً لا تستصحب بياض الورقة لإثبات عدم السواد، وإنما الاستصحاب الصحيح أن نقول إنه سابقاً لم تكن هذه الورقة سوداء جزماً - حينما كان البياض موجود أولاً - فنستصحب عدم السواد، لا أن نستصحب البياض لإثبات عدم السواد فإنَّ هذا أصل مثبت.
والخلاصة: - هي أننا فهمنا أنَّ الاستصحاب المثبت ليست بحجة، وإذا أريد اجراء استصحاب في الشيء لترتيب لوازمه غير الشرعية فهو ليس بحجة، والصحيح أن نجري الاستصحاب في نفس اللوازم إذا كانت لها حالة محرزة سابقة، كاستصحاب بقاء البياض فإنَّ الحالة السابقة المحرزة هي أنه مادام كان بياضاً فلا سواد سابقاً فنستصحب عدم السواد، لا أن نستصحب البياض لنفي السواد.
الثاني: - إنَّ محذور الأصل المثبت يثبت إذا كان الأثر مترتباً على المستصحب بوجوده الواقعي، وأما إذا كان مترتباً على المستصحب الأعم من وجوده الواقعي ووجوده الظاهري فسوف يترتب الأثر من دون لزوم محذور المثبتية، ومثال ذلك استصحاب بقاء وجوب الجمعة إلى زمان الغيبة، فقد يقول قائل إنَّ هذا أصل مثبت، لأنَّ الأثر المترتب على استصحاب بقاء وجوب الجمعة هو لزوم الامتثال، وهذا الوجوب هو وجوب عقلي فإنَّ العقل يحكم بذلك بأنه مادام الوجوب الشرعي لصلاة الجمعة باقياً إلى زمان الغيبة فعلى المكلفين تشكيل صلاة الجمعة واقامتها، وهذا حكم عقلي، وقد يقال إنه يلزم محذور المثبتية لأنَّ هذا أثرٌ عقلي وليس شرعياً.
والجواب:- صحيح أنَّ هذا حكم عقلي ولكنه مترتبٌ على وجود وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة بالنحو الأعم من الوجود الواقعي أو الوجود الظاهري الثابت بالاستصحاب وليس مختصاً ببقاء الوجوب الواقعي، يعني الاستصحاب مادام يثبت لنا على مستوى الظاهر والحكم الظاهري أنه يوجد وجوب لصلاة الجمعة فحينئذٍ إذا ثبت ذلك فالعقل يحكم بأنه يجب تشكيل صلاة الجمعة والاطاعة ولا يلزم محذور المثبتية، لأنَّ موضوع الوجوب العقلي هو بقاء الوجوب الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري، فإنَّ الأحكام الظاهرية يجب امتثالها عقلاً فيحكم العقل حينئذٍ بوجوب الاطاعة من دون لزوم محذور المثبتية.
والنتيجة: - هي أنَّ محذور المثبتية يثبت إذا كان الأثر يترتب على الوجود الواقعي للمستصحب، وأما إذا كان الأثر يترتب على الوجود الواقعي أو الظاهري - كوجوب الاطاعة عقلاً فإنه يترتب على الأعم من الوجوب الواقعي أو الوجوب الشرعي الظاهري - فهنا يثبت الحكم العقلي من باب القطع واليقين، لأنَّ موضوعه قد تحقق ولا يلزم محذور الأصل المثبت.