43/07/11
الموضوع: - التنبيه الثالث ( الأصل المثبت ) - تنبيهات الاستصحاب - مبحث الاستصحاب - الأصول العملية.
ولتوضيح معنى الأصل المثبت نقول: - تارةً يكون المستصحب حكماً شرعياً، كاستصحاب وجوب الجمعة إلى زمن الغيبة، وأخرى يكون المستصحب موضوعاً لحكمٍ شرعي، فإن كان حكماً شرعياً فلا إشكال في جريانه بمقتضى أدلة حجية الاستصحاب، وأما إذا كان موضوعاً فالآثار الشرعية لذلك الموضوع تبقى مترتبة وإنما الكلام في الآثار غير الشرعية، فإذا كان يوجد خمر وشككنا في بقائه على الخمرية ففي مثل هذه الحالة تثبت الآثار الشرعية كحرمة شربه واقامة الحدّ على شاربه، وأما الآثار غير الشرعية كالإسكار فهو لا يثبت في مثل هذه الحالة حتى لو كان للإسكار أثرٌ شرعي، يعني من وصل إلى حالة الاسكار لابد وأن يقام عليه حدٌّ بمقدار كذا، فبما أنَّ الاسكار ليس أثراً شرعياً فلا يمكن اثباته باستصحاب الخمرية، وبالتالي لا يمكن أن يثبت ذلك إذا شربه شخص، بينما إذا شهدت الامارة بأنه باقٍ على الخميرة فيثبت حينئذٍ ذلك.
وفي هذا المجال نقول أيضاً: - إنَّ الأثر تارةً يكون أثراً مباشرياً، وأخرى يكون مباشري وإنما هو بالواسطة، وحينئذٍ هل يثبت الأثر الثاني أو الثالث بالاستصحاب الأول أو لا؟ والجواب: - مادامت كل الآثار شرعيه فسوف تثبت بأجمعها، من قبيل استصحاب طهارة الماء، فلو كان عندنا ماء طاهر وشككنا في تنجّسه فاستصحبنا طهارته فثبتت الطهارة الآن، والأثر الشرعي له هو أننا لو غسلنا به ثوباً فقد طهر، والأثر الشرعي لطهارة الثوب هو جواز الصلاة فيه ... وهكذا، فمادام توجد آثار كلّها شرعية فحينئذٍ سوف تثبت بأجمعها، لأننا بالاستصحاب في المرّة الأولى قد ثبت الأثر الأول، وبثبوت الأثر الأول سوف يثبت الأثر الثاني من دون الحاجة إلى الاستصحاب مرّة ثانية ... وهكذا، فتثبت جميع الآثار مادامت كلّها شرعية، وأما إذا كان هناك أثر عقلي في بداية السلسة أو في وسطها فلا يثبت ذلك الأثر العقلي، كاستصحاب الخمرية، فإذا شربه شخص فالإسكار أثرٌ غير شرعي فلا يثبت، وبالتالي الآثار المترتبة على الاسكار - إن كانت موجودة - سوف لا تثبت لأنّ الاسكار لم يثبت، وهذا شيءٌ فارقٌ بين الموردين.
ويوجد سؤالان: -
السؤال الأول: - وما هو الوجه في عدم حجية الأصل المثبت؟
السؤال الثاني: - ما هو الفارق بين الأمارة حيث كانت مثبتاتها حجة وبين الأصل حيث كانت مثبتاته ليست بحجة؟
أما بالنسبة إلى السؤال الأول:- فالوجه في ذلك هو أن وظيفة الأصل هو التعبّد، فاستصحاب بقاء الحياة يثبت لنا التعبّد بالحياة، يعني أعبّدك بأن هذا الشخص حي لا أنه ثبوت حقيق وجداني وإنما هو ثبوت تعبّدي، يعني اعبّدك بالحياة، والتعبّد بشيء لا يلزم منه التعبّد بآثاره غير الشرعية، أما إذا كانت شرعيةً فالتعبّد بشيءٍ هو تعبّدٌ بآثاره الشرعية، أما إذا كان الأثر ليس شرعياً فالتعبّد الأول لا يلازم التعبّد الثاني، وإنما الملازمة إن كانت موجودة فهي موجودة بين الوجود الحقيقي للشيء والوجود الحقيقي للشيء الثاني، أما إذا كان الوجود وجوداً تعبّدياً وليس حقيقياً فلا يلزم من التعبّد الأول التعبّد الثاني، فمثلاً استصحاب الحياة يعبّدنا بأنَّ هذا الشخص حيٌّ، ولازم الحياة أنَّ عمره الآن أصبح ثلاثون سنة، ومن بلغ الثلاثين فله هدية كذا، فحينئذٍ الاستصحاب يعبّدنا بأنه حيّ فقط، ولكنه لا يعبدّنا بأنَّ عمره الآن أصبح ثلاثين سنة، إنه لا يلزم من التعبّد الأول التعبّد الثاني، فنقتصر على مقدار التعبّد لا أكثر.
فإذاً النكتة في عدم حجية الأصل المثبت هي القصور في المقتضي، يعني أنَّ دليل حجية الاستصحاب يقول أعبدك ببقاء ما كان كما أعبدك بآثاره الشرعية، وإلا فالتعبّد بوجود المستصحب دون التعبّد بآثاره الشرعية فسوف يكون لغواً ومن دون فائدة، ولكن لا توجد ملازمة بين التعبّد بالشيء والتعبّد بآثاره غير الشرعية.
فإذاً الدليل على عدم حجية الأصل المثبت هو عدم الدليل على حجيته، بمعنى أنَّ التعبّد بشيءٍ لا يلزم منه التعبّد بلوازمه غير الشرعية، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: - ﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ يعني عبّدتنا هذه الآية الكريمة بأنَّ أزواج النبي صلى الله عليه وآله منزّلات منزلة الأم في حرمة الزواج بهن، ولا يلزم من ذلك التعبّد بجواز النظر، وإنما الشرع يريد أن يعبّدنا بمقدار حرمة الزاج منهن فقط ولا يلزم من ذلك أن يعبدنا باللوازم الأخرى كجواز النظر.
فإذاً في باب التعبّد نقتصر على مقدار التعبّد ولا نتجاوز إلى الآثار الأخرى إلا إذا كانت الآثار الأخرى شرعية، لأنها لو كانت شرعية فهي سوف تثبت، لأنَّ موضوعها قد ثبت بالتعبّد، أما إذا كانت الآثار غير شرعية فلا يلزم من ثبوت الشيء ثبوت آثاره غير الشرعية.
والخلاصة:- إنَّ نكتة عدم حجية الأصل المثبت هو أنَّ دليل حجية الأصل يعبّدنا بما عليه الأصل وبآثاره الشرعية، أما أزيد من ذلك - وهي الاثار غير الشرعية - فلا يعبّدنا بها، ولا ملازمة بين التعبّد بشيءٍ وبين التعبّد بالآثار غير الشرعية له، لأنَّ التعبّد بيد الشرع، وهو يعبّد بمقدار الآثار الشرعية دون الآثار غير الشرعية، نعم لو دل الدليل على أنه يعبّدنا بهذا الشيء بلحاظ جميع آثاره الشرعية وغير الشرعية فهنا نلتزم بذلك ونقول بالحجية في جميعها، ولكن الذي ندّعيه أنَّ دليل الحجية قاصر عن اثبات ذلك، فهو يثبت الحجية بلحاظ الآثار الشرعية فقط دون الآثار غير الشرعية، نعم لو كان يوجد اطلاق في دليل الحجية لالتزمنا به، ولكن لا يوجد فيه الاطلاق وإنما يوجد فيه قصور، فلا يكون شاملاً لها، وهذا بخلافه لو كانت جميع الآثار شرعية فإنه الأثر الشرعي إذا ثبت فهو موضوعٌ للأثر الشرعي الثاني، وإذا ثبت الأثر الشرعي الثاني ثبت الثالث وهكذا، أما في الآثار غير الشرعية فالتعبّد بمقدارٍ معين لا يلازم التعبّد بآثار ذلك الشيء المعين.